ان يوم الخميس العاشر من فبراير حاسماً، لقد مضى ستة عشر يوماً، الشارع يغلى، المظاهرات تزحف، الاعتصامات تتزايد مساحتها، عمليات الفوضى والبلطجة تهدد الآمنين، والرئيس لا يزال غائباً عن الحدث..
كان مبارك قد وعد المشير بأنه سيلقى خطاباً فى السابعة من مساء الأربعاء 9 فبراير يعلن فيه نقل اختصاصاته الرئاسية للنائب عمر سليمان لينهى بذلك الأزمة، ويضع حداً للتصعيد الذى يشهده الشارع.
لم يظهر الرئيس على شاشة التلفاز فى هذا اليوم، يبدو أنه خضع لتهديدات نجله جمال الذى هدد بالانتحار أكثر من مرة، كان جمال شرساً فى المواجهة يرفض تسليم السلطة لكائن من كان، كان مبارك قد وعد نائبه، اللواء عمر سليمان، يوم التاسع والعشرين من يناير، أى بعد تعيينه مباشرة، بنقل الاختصاصات الرئاسية إليه، انتظر عمر سليمان من الرئيس الوفاء بوعده، إلا أنه لم يف، بل كاد عمر سليمان يدفع حياته ثمناً، بعد أن أطلق عليه ثلاثة مجهولين الرصاص وهو فى طريقه إلى القصر الرئاسى مساء يوم الأحد الثلاثين من يناير، وظل الحادث غامضاً منذ هذا الوقت وحتى الآن ولكن بالتأكيد أن عملية الاغتيال كانت تستهدف منعه من الاستمرار فى منصبه.
لماذا طلب الفريق سامى عنان من المشير عدم القسم على المصحف الشريف فى لقاء الأول من فبراير؟
لقد حكى اللواء عمر سليمان لى تفاصيل الواقعة فى منتصف عام 2011 وعندما عدت إليه قبيل أن يرشح نفسه للرئاسة بقليل وطرحت سؤالى عليه: من كان صاحب المصلحة؟ قال لى إن كل المؤشرات رجحت شخصاً بعينه، لكنى لا أريد أن أفتح هذا الملف مرة أخرى، أدركت ماذا يعنى واحترمت رغبته فى هذا الوقت!! كان عمر سليمان على علم بموعد خطاب الرئيس الذى كان يفترض أن يلقيه مساء الأربعاء 9 فبراير إلا أنه كان يعرف أن الضغوط التى تمارس على مبارك من نجله وزوجته ربما تحول دون تحقيق رغبته التى عبر عنها أكثر من مرة.
لقد حكى اللواء عمر سليمان فى لقاء لى معه أن الرئيس السابق أبلغه أكثر من مرة أنه غير راغب فى السلطة وأنه فقد الاهتمام بكل شىء منذ رحيل حفيده محمد علاء، وأنه كان ينوى ترك الحكم إلا أنه قبل الاستمرار خوفاً من المجهول، غير أنه فى هذه المرة أصبح على قناعة تامة بأن الوقت قد حان ليقضى ما بقى له من عمر فى شرم الشيخ وبعيداً عن الحكم ومسئولياته.
فى هذا الوقت كان «مبارك» على يقين أن الجيش قد حسم أمره وأنه قرر الانحياز للمتظاهرين، وأنه فتح أمامهم الطريق، وأنه مستعد للإعلان عن التخلى عن السلطة فوراً لولا أنه كان يدرك أن استقالته بهذه الطريقة قد تفتح الطريق أمام الصراعات المجتمعية مما يؤدى إلى الفوضى، واعتلاء جماعة الإخوان لشئون الحكم فى البلاد.
مبارك خلال اخر خطاب له
فى الثامن من فبراير، كان النائب عمر سليمان، يلتقى رؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية والمستقلة بمقر القصر الجمهورى، كانت قوات الحرس تحيط بالقصر من كل اتجاه، وكانت الأجواء تنبئ بتطورات خطيرة، كان الكل يشعر بخطورة الموقف إلا الرئيس مبارك فقط كان لديه يقين حتى هذا الوقت بأن الشباب الغاضب الذى يملأ الميادين سيعود، وينهى هذه التظاهرات، كما أن الحرس الجمهورى سوف يحول دون إسقاط النظام، خاصة بعد أن فقد الثقة فى موقف الجيش الذى أعلن انحيازه للشعب وللمتظاهرين.
فى الأول من فبراير كان المشير طنطاوى ورئيس الأركان الفريق سامى عنان يتصدران مائدة الاجتماعات الملحقة بمكتب رئيس الأركان، كان هناك عدد من قيادات الجيش الأساسيين، جرى تدارس الموقف وتقرر إصدار بيان سماه المهندس سعد الحسينى، عضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان، بأنه يساوى قرار الحرب فى أكتوبر.
كيف تطاول جمال مبارك على قائد الحرس الجمهورى بعد نزع الذخيرة الحية من رجال الحرس؟
كان البيان قوياً وحاسماً، لقد أعلن بوضوح الانحياز لأهداف الثورة وتفهمه للمطالب المشروعة للمتظاهرين، وتضمن أيضاً رفض استخدام القوة، لقد نزل البيان برداً وسلاماً على الميادين والشوارع، غير أنه أثار قلق النظام ورئيسه.
كان الفريق سامى عنان يقود القسم على المصحف الشريف بأن يبقى كل شىء سرياً وأن يخلص الجميع للشعب وللثورة، وقد طلبت فى هذا الوقت من المشير طنطاوى أن يخرج ويترك القاعة حتى لا يكون ملزماً بالقسم فى حال أية مواجهة مع الرئيس.
كان المشير قد اتخذ القرار منذ الاجتماع الأول للقادة فى السادس والعشرين من يناير لن نستخدم العنف ولن نكون إلا مع الشعب، كان يدرك خطورة الموقف لكنه وجدها فرصة سانحة لإنهاء حلم التوريث ولإعادة الكرامة المسلوبة إلى المصريين.
فى مساء ذات اليوم وبعد إذاعة البيان، وجهت الرئاسة دعوة لعقد اجتماع مع الرئيس، قبيل الذهاب كان رئيس الأركان قد ساوره الشك، والريبة، لماذا الاجتماع فى هذا الوقت ولماذا حضوره هو والمشير فى وقت واحد؟!
كانت المعلومات المتوافرة لدى الفريق سامى عنان فى هذا الوقت قد أشارت إلى أن محاولة اغتيال اللواء عمر سليمان كان هدفها التخلص منه حتى لا يزاحم على الحكم والسلطة فلماذا لا تكون هذه الدعوة «شركاً» يدبر للمشير ورئيس الأركان عقاباً لهما على موقفهما الذى جسده البيان الصادر من القوات المسلحة..
حسين طنطاوى
طلب رئيس الأركان من اللواء حسن الروينى، قائد المنطقة المركزية، عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، اتخاذ الإجراءات الأمنية الكفيلة بتأمين خط السير من وزارة الدفاع إلى مقر الرئاسة.
فى الموعد المحدد، كانت هناك أربع سيارات للحراسة تحيط بموكب المشير ورئيس الأركان، وكانت هناك دبابات ومدرعات على طول الطريق إلى قصر الاتحادية حتى بدا الأمر وكأن هناك زحفاً عسكرياً إلى القصر الجمهورى.
مبارك قرر تسليم اختصاصاته كاملة إلى عمر سليمان يوم 29 يناير فكانت الرصاصات المجهولة
عندما وصل الموكب إلى الاتحادية، كان قائد الحرس الجمهورى، اللواء نجيب عبدالسلام، فى استقبال المشير ورئيس الأركان، وعلى الفور بادر الفريق سامى عنان وقال له لا نريد إذاعة الخبر بأى شكل من الأشكال فى وسائل الإعلام.. طلب منه أن يأتى إليه بمسئول الإعلام بالرئاسة لإبلاغه بالأمر، وبالفعل شدد رئيس الأركان عليه بعدم نشر أو إذاعة خبر الاجتماع بين الرئيس وقادة الجيش..
كان الفريق عنان يتخوف من الخديعة، وتصوير اللقاء على أنه مساندة من الجيش للرئيس وهو أمر يعنى أن البيان الصادر صباح ذات اليوم عن القوات المسلحة كان مجرد كلمات سرعان ما تطايرت فى الهواء، وهو أمر قد يحبط الثوار والمتظاهرين ويسىء إلى قيادة الجيش!!
بعد قليل كان الرئيس مبارك يتصدر مائدة اللقاء وإلى جواره على يمين المائدة اللواء عمر سليمان، نائب الرئيس، وفى مواجهته الفريق أحمد شفيق، رئيس الوزراء، ثم المشير حسين طنطاوى، وزير الدفاع، وفى مواجهته الفريق سامى عنان، رئيس الأركان، ثم مقعد لوزير الداخلية، اللواء محمود وجدى، وفى ومواجهته اللواء نجيب عبدالسلام، قائد الحرس الجمهورى.
كانت الأوضاع الأمنية حتى هذا الوقت تشهد توتراً متصاعداً، كثير من الطرق تقطعت، المظاهرات تزحف من مناطق عديدة باتجاه ميدان التحرير، أعمال العنف تنتشر فى أنحاء البلاد، وكل ذلك لم يمكن اللواء محمود وجدى، وزير الداخلية، من حضور هذا اللقاء..!!
بدأ الرئيس فى هذا اللقاء برسالة أرادها أن تصل إلى المشير ورئيس الأركان، قال: «لقد أعلن الجيش عن موقفه وأصدرتم بياناً صباح اليوم ألا تدركون أنكم أنتم المسئولون عن حماية الشرعية، دار جدل بين المشير والرئيس من جانب وبين رئيس الأركان والرئيس من جانب آخر.
كان الفريق سامى عنان الأكثر حدة فى المواجهة قال للرئيس بوضوح: نحن قلنا لن نتورط فى إراقة دماء المتظاهرين وهذا موقف ثابت للقوات المسلحة، رد عليه الرئيس دماء، دماء إيه، كفانا الله شر الدماء، أنا أردت فقط أن أقول إنكم حسمتم أمركم، دون العودة إلىّ بصفتى القائد الأعلى للقوات المسلحة وأصدرتم البيان والذى سوف يشجع المظاهرات على الاستمرار أرجو ألا تنسوا أنكم أيضاً مسئولون عن حماية الشرعية، قالها وكررها للمرة الثانية.
استمر الرئيس فى حديثه مع الحاضرين أخطرهم بأنه سيعلن بياناً للشعب بعد قليل وأنه سيؤكد فى هذا البيان أنه ليس له أى مطمع فى الاستمرار فى حكم البلاد، وأن مطالب المتظاهرين ستجد استجابة واضحة وأن كل ما يخيفه هو انتشار الفوضى أو استيلاء الإخوان المسلمين على البلاد فى حال التنحى عن السلطة بشكل فجائى، وقال أيضاً إنه أكد أن نجله جمال ليس له أى مطمع فى تولى منصب رئيس الجمهورية أو الترشح له..!!
انتهى الاجتماع وبدا الأمر لدى الفريق سامى عنان وكأن الرئيس يضمر شيئاً، كان حذراً وحريصاً، قبيل أن ينصرف الجميع من القصر كان الفريق شفيق يقف مع المشير طنطاوى يتحدثان سوياً وفى هذه اللحظات انتحى الفريق سامى عنان بقائد الحرس الجمهورى وسأله: هل الذخيرة الموجودة مع رجال الحرس الجمهورى أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون ذخيرة حية أم فشنك؟!
رد اللواء نجيب عبدالسلام: الذخيرة حية.
سأله الفريق عنان: وهل الذخيرة التى بيد الحرس الجمهورى داخل القصر وخارجه كذلك؟
رد قائد الحرس: نعم جميعها ذخيرة حية!!
هنا طلب الفريق عنان من قائد الحرس ضرورة إصدار تعليماته بنزع الذخيرة الحية من رجال الحرس الجمهورى فوراً واستبدالها بذخيرة «فشنك».
عمت السعادة وجه قائد الحرس، تنفس الصعداء، وجد فى هذا الأمر ضالته، كان يتخوف من تورط الحرس الجمهورى فى عمليات قتل، حال تردى الأوضاع، نفذ الأمر دون الرجوع إلى الرئيس أو استشارته.
كان المشير ورئيس الأركان يركبان سيارة واحدة فى طريق العودة تدارسا الأمر ورد فعل الرئيس تحديداً على كلام الفريق سامى عنان وحدته، غير أن الفريق سامى قال كان طبيعياً أن تكون لغتى حادة بهذا الشكل، كان على الرئيس أن يعرف أن موقف الجيش ثابت، وأن عقيدتنا الوطنية تمنعنا أن نكون ضد الشعب.
فى مساء هذا اليوم ألقى الرئيس مبارك خطابه قال: إنه سيعمل كل ما فى وسعه خلال الأشهر المتبقية من ولايته لتأمين آليات آمنة لانتقال السلطة فى البلاد، قال بثقة إن مصر ستخرج من الظروف الراهنة أقوى مما كانت عليه وأكثر ثقة ووعياً وتماسكاً.
وقال الرئيس: إن أحداث الأيام القليلة الماضية تفرض علينا جميعاً شعباً وقيادة الاختيار ما بين الفوضى والاستقرار وتطرح أمامنا ظروفاً جديدة وواقعاً مصرياً مغايراً يتعين أن يتعامل معه شعبنا وقواتنا المسلحة بأقصى قدر من الحكمة والحرص على مصالح مصر وأبنائها.
وقال إنه بادر بتشكيل حكومة جديدة وكلف نائب رئيس الجمهورية بالحوار مع جميع القوى السياسية حول جميع القضايا المثارة للإصلاح السياسى وإجراء التعديلات الدستورية والتشريعية من أجل تحقيق المطالب المشروعة واستعادة الأمن والاستقرار فى البلاد.
وحذر الرئيس السابق فى خطابه من أن هناك قوى سياسية ترفض هذه الدعوة إلى الحوار تمسكاً بأجنداتها الخاصة، دون مراعاة الظرف الدقيق الذى تمر به البلاد.
فى هذا الخطاب راح مبارك يؤكد للمصريين أن مسئوليته تفرض عليه تحقيق الانتقال السلمى للسلطة فى أجواء تحمى مصر والمصريين وتتيح تسليم المسئولية لمن يختاره الشعب فى الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وقال بكل حسم: «أقولها بكل الصدق وبصرف النظر عن الظرف الراهن، إننى لم أكن انتوى الترشح لفترة رئاسية جديدة وقد قضيت ما يكفى من العمر فى خدمة مصر وشعبها لكننى الآن حريص كل الحرص على أن اختتم عملى من أجل الوطن بما يضمن تسليم أمانته ورايته ومصر عزيزة وآمنة ومستقرة وبما يحفظ الشرعية ويحترم الدستور».
وفى هذا الخطاب استجاب مبارك للمطلب الشعبى الذى سخر منه كثيراً فى وقت سابق بتعديل المادتين «76و77» من الدستور بما يعدل شروط الترشح لرئاسة الجمهورية ويعتمد فترات محددة، وقال لكى يتمكن البرلمان الحالى بمجلسيه من مناقشة التعديلات التشريعية المقترحة وما يرتبط بها فإننى أطالب البرلمان بالالتزام بكلمة القضاء وأحكامه فى الطعون على الانتخابات التشريعية الأخيرة دون إبطاء، كان مبارك يقصد بذلك الأحكام التى أصدرتها المحكمة الإدارية العليا ببطلان الانتخابات التشريعية فى 99 دائرة.
لم ينس مبارك فى هذا الخطاب أن يؤكد أنه قد أعطى تعليماته إلى السلطات الرقابية ومطالبة القضاء بأن يتخذ كافة إجراءاته لمواصلة ملاحقة الفاسدين والتحقيق مع المتسببين فيما شهدته مصر من انفلات أمنى وترويع للآمنين.
جاءت كلماته الأخيرة فى هذا الخطاب لتثير عاطفة الكثيرين، خاصة من عامة الناس، عندما قال: «إن حسنى مبارك الذى يتحدث إليكم اليوم، يعتز بما قضاه من سنين طويلة فى خدمة مصر وشعبها، إن هذا الوطن العزيز هو وطنى مثلما هو وطن لكل مصرى ومصرية، فيه عشت وحاربت من أجله ودافعت عن أرضه وسيادته ومصالحه وعلى أرضه أموت، وسيحكم التاريخ علىّ وعلى غيرى بما لنا أو علينا»!!
سادت حالة من السكينة أنحاء البلاد، اهتزت مشاعر الكثيرين، لقد أجاد أنس الفقى، وزير الإعلام، صياغة العبارات العاطفية للخطاب وكان هو ومجموعة القصر على ثقة تامة بأن مضمون الخطاب سوف تكون له آثاره الإيجايبة، لقد جاءت كلماته لتسحر القلوب والعقول، خاصة أن سقف المطالب كان يتراوح بين الإصلاحات المطلوبة وبين إسقاط النظام.
فى 26 و27 يناير كنت قد شاركت فى اعتصامات وتظاهرات جرت أمام مبنى نقابة المحامين ونقابة الصحفيين، وفى الثامن والعشرين مضيت وشقيقى محمود بكرى إلى الجامع الأزهر بهدف القيام بمظاهرة من هناك تتوجه إلى ميدان التحرير.
كانت الإجراءات الأمنية شديدة لقد تم حصار الجامع الأزهر منذ الصباح، صدرت التعليمات بمنع من هم أقل من 45 عاماً من الدخول والصلاة، كان معنا الزميل المصور الصحفى أحمد فريد رفض لواء شرطة، كان يترأس الحملة الأمنية أمام المسجد، دخوله ودخول أى من المصورين الصحفيين إلى داخل المسجد.
كان خطيب المسجد يوجه انتقاداته إلى المظاهرات، استنكر الدعوة إلى جمعة الغضب، راح يتحدث عن قضايا أخرى وبات كأنه فى وادٍ آخر، فجأة انطلقت أصوات من داخل المسجد تعارضه، وبعد أن انتهينا من الصلاة وجدت نفسى أهتف بسقوط النظام وانطلقت بنا مظاهرة ضخمة من داخل الأزهر باتجاه شارع الأزهر، إلا أن المظاهرة توقفت أمام كوبرى الأزهر، حيث واجهت حشوداً كبيرة من رجال الأمن المركزى.
استقللنا بعد قليل سيارة أحد الشباب ومضينا بالاتجاه العكسى من ناحية السيدة عائشة متجهين إلى التحرير وبالقرب من الميدان باتجاه شارع قصر العينى كانت هناك ترسانة من الجنود والضباط، تحول دون الوصول إلى الميدان حاولنا ولم نستطع ثم مضينا إلى دار القضاء العالى حيث كانت تدور اشتباكات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين، كانت المنطقة مغطاة بدخان القنابل المسيلة للدموع وبعد أذان العصر بقليل كان رجال الشرطة يهربون ويحتمون داخل البيوت والمؤسسات القريبة من موقع الأحداث.
مضينا إلى مصر صحيفة الأسبوع فى وسط العاصمة، وفى مساء ذات اليوم كان خطاب الرئيس مبارك الذى تحدث فيه عن عزمه تغيير الحكومة، ثم تعيين نائب للرئيس..
فى الثامنة من صباح التاسع والعشرين من يناير سلمت مقالى الأسبوعى، الذى حمل عنوان «لا بديل عن الرحيل»، واستودعته مدير مكتبى، وليد زكى، الذى كان ينام بمقر الصحيفة منذ بداية الأحداث مع آخرين، ووقفت أمام نقابة المحامين بشارع رمسيس فى هذا الوقت المبكر من الصباح، أهتف فى عرض الشارع «يسقط يسقط حسنى مبارك»، التف حولى المئات ثم الآلاف حملونى على الأعناق ومضينا فى مظاهرة عارمة باتجاه ميدان التحرير مروراً بماسبيرو..
كانت قوات الجيش قد نزلت إلى عدد من الميادين فى الخامسة والنصف من مساء الجمعة 28 يناير، مضينا بالمظاهرة، صعدت على ظهر ناقلة للجيش، ألقيت خطاباً وسط الآلاف، ثم بقينا فى الميدان لعدة ساعات، ثم مضينا باتجاه مبنى التليفزيون محمولاً على الأعناق، وأمام مبنى هيلتون النيل أصبت بإعياء شديد..
لم أكن قد أخطرت شقيقى محمود بأننى سأنزل إلى الميدان، عرف الخبر من السائق محمد على، فجاء مسرعاً ليرافقنى فى ميدان التحرير، أحد الأطباء بقصر العينى لاحظ الإعياء الذى أصابنى فى المظاهرة، كان هو الدكتور محمد أبوهميلة، رافقنى إلى قصر العينى، تولى د.شريف مختار، رئيس وحدة القلب، متابعة حالتى، وتم احتجازى داخل وحدة القلب بقصر العينى، فقد كان هناك اشتباه فى أن تكون هناك جلطة حول القلب.
كانت أعمال العنف ومحاولات اقتحام قصر العينى لا تتوقف، لم تكن هناك أية قوات للأمن وحتى قوات الجيش لم تكن بقادرة على أن تسد الفراغ الأمنى فى هذا الوقت.
كانت خطوط المواصلات والاتصالات مقطوعة ولم أتمكن من الاتصال بأسرتى، كان القلق يعترينى، وكان الأطباء والممرضون ينقلون إلىّ أخبار الشهداء والجرحى فى ميدان التحرير الذين كان مستشفى قصر العينى يتكدس بهم.
أمضيت نحو أربعة أيام محتجزاً داخل وحدة القلب بقصر العينى، كانت الصحفية والكاتبة نجلاء بدير تزور وتتابع حالة بعض الجرحى فى المستشفى فى هذا الوقت، عرفت بوجودى جاءت وأخطرتنى بحالتى الصحية وكنت قد قررت المغادرة فى نفس هذا اليوم الأول من فبراير 2011.
كانت الاتصالات الهاتفية قد عادت مرة أخرى بعد الضغوط الدولية والمحلية التى مورست على النظام، اتصلت بى قناة المحور فى هذا الوقت، دعانى الزميل معتز الدمرداش إلى مائدة حوار فى برنامجه «90 دقيقة» مساء ذات اليوم كنا أربعة مشاركين؛ د.سوزان القلينى، رئيس قسم الإعلام بكلية آداب عين شمس، والكاتب الصحفى نصر القفاص والكاتب الصحفى محمد صلاح، وأنا.
اشتدت لغة الحوار، وجهنا انتقادات لاذعة إلى مواقف النظام وتبنيه لخيار الفساد والاستبداد وفجأة توقف بث البرنامج على الهواء لنقل خطاب الرئيس مبارك الذى ألقاه فى الأول من فبراير.
كان خطاباً عاطفياً اهتزت له مشاعر الكثيرين، ثم فُتح هاتف الاتصالات للتعليق على الخطاب من المشاهدين، كانت جميع الاتصالات تنتقد موقفنا من معاداة النظام، حملونا مسئولية الخراب الذى تشهده البلاد، قالت لى إحدى المتصلات: لقد كنت أحترمك وأحترم مواقفك، ولكن الآن أنت مثلك مثل الآخرين تسعون إلى خراب هذا البلد، حرام عليك، الرئيس استجاب لمطالبكم وقال إنه لا يريد الحكم ولا ابنه يسعى للحكم، ثم أردفت القول: «أرجوك يا أستاذ مصطفى اذهب غداً أنت ومن معك إلى ميدان التحرير وأقنعوا الشباب بأن يفض المظاهرات إنقاذاً للبلد وحماية لأمنها واستقرارها».
كانت السيدة تبكى بحرقة، وراح الإعلامى معتز الدمرداش يسألنى بشكل مباشر: «هل ستذهب غداً إلى الميدان وتقنع الشباب بالانصراف، فقلت له إن شاء الله وأنا شخصياً رأيى بعد أن استجاب مبارك للعديد مما نطالب به، أن نمنحه فرصة الأربعة أشهر القادمة بشرط تنفيذ المطالب حماية للبلاد واستقرارها وهو ما أيدنى فيه بعض الحاضرين معى فى الندوة.
كانت الأجواء تقول إن جماعة الإخوان المسلمين التى رفضت المشاركة فى المظاهرات من بدايتها قد دخلت إلى الميدان بقوة بدءاً من يوم الثامن والعشرين من يناير، يبدو أنهم باتوا مقتنعين أن النظام يتهاوى، لقد وجدوا فرصتهم للإجهاز عليه، وتولى قيادة الثورة التى كانت بلا قيادة معروفة حتى هذا الوقت.
قال لى اللواء عمر سليمان فيما بعد إن المخابرات العامة رصدت اتصالات خارجية بعناصر داخلية كشفت اللغز عن كيف جرت عملية فتح السجون واقتحامها والإفراج عن عناصر تنتمى إلى حزب الله وإلى حركة حماس وكذلك عناصر قيادية من جماعة الإخوان المسلمين.. كان كل شىء ينذر بالخطر، العشرات من أقسام الشرطة تم حرقها، أكثر من 23 ألفاً من المساجين تمكنوا من الهروب، وراح بعضهم يرتكب الجرائم؛ بلطجة وقطع طرق، البورصة خسرت نحو 72 مليار جنيه فى ساعات محدودة، كان كل شىء ينذر بالخطر.
فى صباح اليوم التالى 2 فبراير كانت موقعة الجمل التى لا تزال أسرارها غامضة كيف وقعت؟ من تولى عملية الدفع بالصدام؟ ومن هؤلاء الذين اعتلوا العمارات المحيطة بالميدان ومبنى الجامعة الأمريكية ليطلقوا رصاص الخرطوش والمولوتوف ضد المتظاهرين فى ميدان التحرير؟ كانت هناك أسلحة بالليزر توجه رصاصاتها، لقد سألت اللواء منصور العيسوى عندما تولى منصب وزير الداخلية عن هوية هؤلاء؟ قال إن الشرطة لا تمتلك هذه الأسلحة، كانت الإجابات لا تشفى غليلاً، كان هناك من يريد التصعيد وإشعال الموقف، خاصة بعد أن انصرف الكثيرون عن الميدان فى صباح ذات اليوم وتحديداً بعد خطاب مبارك العاطفى الذى ألقاه فى مساء اليوم السابق.
وفى هذا اليوم تلقى الفريق سامى عنان اتصالاً من اللواء نجيب عبدالسلام، قائد الحرس الجمهورى، يطلب مقابلته لأمر مهم وعاجل، حكى اللواء نجيب للفريق سامى عنان أن الرئيس استدعاه بعد انتهاء اللقاء السداسى الذى حضره عمر سليمان وأحمد شفيق والمشير وسامى عنان وهو مع الرئيس وقد سأله عن رأيه فيما قاله الفريق سامى عنان والمشير وموقف الجيش الذى عبر عنه فى البيان الذى أصدره صباح ذات اليوم؟ فقال اللواء نجيب عبدالسلام: لقد أصدر الفريق سامى عنان إليه أمراً بسحب الذخيرة الحية من جنود الحرس الجمهورى وضباطه، خوفاً من حدوث عمليات عنف، وهو نفس ما جرى مع رجال الجيش، أبدى الرئيس دهشته وسأل قائد الحرس: وماذا يعنى ذلك؟!
رد قائد الحرس: لقد نفذت تعليمات رئيس الأركان.
قال الرئيس: التعليمات يجب أن تصدر منى أنا!!
صمت قائد الحرس، حاول جمال مبارك التطاول عليه بالكلمات، قال: «انتم حتضيعوا البلد، أنتم لا تقومون بدوركم فى حماية النظام، هذه مؤامرة ضد الرئيس، لا يجب السماح بها»..
هدأ مبارك من مشاعر نجله، لم يصدر أمراً مخالفاًَ للواء نجيب عبدالسلام، قال له: «أنا شخصياً لا أريد مزيداً من الدماء فى الشارع، وأنا لن أبقى فى الحكم سوى شهور قليلة لأسلم السلطة إلى رئيس منتخب بطريقة تضمن عدم الانهيار وسيادة الفوضى».
استمع الفريق سامى عنان إلى الرواية التى أبلغه بها قائد الحرس الجمهورى، قال له لا تغيير فى الموقف، التعليمات للحرس الجمهورى تصدر عنى أنا، ولا يجب تسليم رجال الحرس أية ذخيرة حية مهما كان رأى الرئيس..
قال قائد الحرس: الرئيس لم يطلب منى ذلك، لقد استسلم للقرار، ولم يصدر أية قرارات مخالفة.
قال الفريق: إذن على بركة الله.. موقفنا جميعاً هو الذى عبر عنه البيان الصادر عن القوات المسلحة بعدم استخدام القوة وتفهم مطالب المتظاهرين.
عاد اللواء نجيب عبدالسلام إلى القصر الجمهورى، كانت الأجواء تنبئ بأزمة خانقة، لهيب النار كان قد انتشر فى ميدان التحرير، زجاجات المولوتوف تكاد تصل إلى مناطق متعددة خارج الميدان، الوطن يشتغل من جديد.
كان الرئيس عصبياً تساءل: من المسئول عن الدفع ببعض المتظاهرين إلى ميدان التحرير فى ظهر هذا اليوم؟ كان يردد بعصبية شديدة: هذه مؤامرة، لكنه كان يعرف أيضاً أن هناك من استغل الحدث وأشعل النيران لإجهاض النتائج التى تولدت عن خطابه.
أدرك مبارك أن من أرادوا إشعال النيران فى موقعة «الجمل» قد نجحوا فى تحقيق أغراضهم، عاد المواطنون إلى الميدان من جديد، كثف الإخوان المسلمون من وجودهم، حشدوا كوادرهم، مارست واشنطن ضغوطاً شديدة فى هذا اليوم وما تلاه، توقف مبارك أمام تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلى «إيهود باراك» قال فيه: «لا شك أن عهد مبارك قد انتهى، هناك أمر لا يشبه فى شىء ما كان سابقاً»، بايدن، نائب الرئيس الأمريكى، أبلغ نظيره اللواء عمر سليمان صبيحة الخميس 3 فبراير أنه لم يعد أمام الرئيس من خيار سوى «التنحى».
أدرك مبارك أن الخناق يضيق عليه، موقف يشتعل بالداخل، وضغوط تمارس بكل قوة من الخارج، قرر أن يواجه الطوفان، خاصة بعد المكالمة الهاتفية الساخنة التى جرت بينه وبين الرئيس أوباما قبيل ساعات قليلة من موقعة الجمل، والآن تأكد الرئيس أن الأمريكان قد ضحوا به، وأنهم لن يسكتوا عنه، كان يراهن على حدوث شىء ما، ينقذ نظامه، ويحول دون إدخال البلاد إلى المجهول، كما كان يردد فى هذا الوقت، لكن التطورات اللاحقة كانت له بالمرصاد.