يقول رب العزة في كتابه الكريم موجها خطابه لحبيبه عليه الصلاة والسلام إنا فتحنا لك فتحا مبينا سورة الفتح الآية1
والتي قال عنها الرسول الكريم بعد أن نزلت عليه أنها أحب اليه مما طلعت عليه الشمس.
الفتح المبين.. النصر الأعظم.. بعض مما أطلق علي فتح مكة علي يد الرسول عليه الصلاة والسلام في العشرين من رمضان للعام الثامن من الهجرة بعد أن هاجر منها وهي التي وصفها بأحب بلاد الله الي الله ورسوله للمدينة المنورة لتأسيس دولته والعودة مجددا للحبيبة مكة في حدث يعد من أعظم الأحداث الإسلامية التي مهدت الأرض لانطلاق دولة الإسلام بعد ذلك.
يروي الدكتور اسماعيل أحمد حسن الاستاذ بجامعة الازهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية أحداث فتح مكة مشيرا إلي بدء النبي مسيرته في العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة وقد انضم الي المهاجرين والأنصار عدة كتائب مقاتلة من القبائل المسلحة حول المدينة كما لحق بهم في الطريق عدة قبائل أخري ووصل جيش المسلمين الي10 الاف مقاتل ولم يشعر بمسيرتهم أهل مكة وكان النبي صلي الله عليه وسلم حريصا علي ألا تراق نقطة دم واحدة في مكة ولكن كان وجود بعض الكفار ذوي عداوة شديدة للمسلمين في مكة من أمثال عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية قد يعقد الأمور ويجعل ذلك عسيرا ومن هنا كان قرار النبي صلي الله عليه وسلم بدخول مكة بقوات من جميع نواحيها وكما هو معلوم وتقع مكة المكرمة بواد وتحيط بها الجبال من كل ناحية وهناك أربع طرق توصل إلي مكة كل منها يمر بشعبة من شعاب التلال.
واستكمل حديثه متحدثا عن تقسيم الجيش الي أربع فرق ورسم لكل فرقة طريقها الذي تتبعه لدخول مكة وكانت الفرقة الرئيسية وعلي أرسها النبي صلي الله عليه وسلم نفسه ولواء الكتيبة مسئولية إبي عبيدة بن الجراح ويدخل من الطريق الرئيسي عند مدخل أزاخر من الشمال الغربي بمكة المكرمة, أما الفرقة الثانية ويقودها الزبير بن العوام وتدخل من الجنوب الغربي عبر شعبة تقع غربي جبل كداء, وأما الفرقة الثالثة ويقودها علي بن أبي طالب وتدخل من كدي في الجنوب الشرقي, وأما الرابعة ويقودها خالد بن الوليد فتدخل مكة المكرمة من ناحية الشمال الشرقي عند منطقة تسمي الليط عند جبل خندمة, وتقدمت الفرق الأربع في وقت واحد بهدف تشتيت جهود قريش فلا يستطيعون المقاومة ولا يجدون لهم من سبيل إلا الاستسلام.
ويقول إن النبي صلي الله عليه وسلم أكد عدم البدء بالقتال ما لم تبدأ قريش بالمقاومة المسلحة وقد دخل المسلمون مكة في20 رمضان أي بعد عشرة أيام من خروجهم من المدينة المنورة وكانت هذه أسرع مسيرة لجيش وكان أبو سفيان قد علم بقدوم جيش النبي الي مكة وخرج ليستطلع الأمر ليعود الي الناس في مكة مسرعا ليخبرهم بالوضع وقد صرخ فيهم قائلا: يا معشر قريش.. هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن, فتساءلوا: وماذا تغني عنا دارك؟ فقال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن ألقي سلاحه فهو آمن هكذا أخبرني الرسول فتفرقوا يا قوم قبل أن يدرككم جيشه الزاحف باتجاهكم, وقد عمل معظم رجال قريش بنصيحة أبي سفيان فدخل كل منهم داره ودخل بعضهم إلي المسجد.
ويروي الدكتور اسماعيل أن المجموعة التي أشرف عليها خالد بن الوليد هي الأكثر إراقة للدماء بسبب حشد عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية للقتال حيث واجها كتيبته ودارت معركة قصيرة بين الاثنين وقد قتل من المشركين12 رجلا مقابل اثنين من المسلمين وبعدها فر عكرمة وصفوان كل الي داره, ولما علم النبي بأمر هذه المعركة وبعدد القتلي غضب من خالد لأنه لم يكن يريد إراقة للدماء ولكن خالد أوضح أنه لم يفعل شيئا سوي صد هجوم كان يستهدفه فسكت عنه النبي علي مضض حتي حان موعد سورة الفتح عندما اجتمع النبي وكل الفرق داخل ساحة الحرم وأتم طوافه وعفا عن معشر قريش قائلا: اذهبوا فأنتم الطلقاء.
يؤكد الداعية الإسلامي الدكتور أسامة القوصي أن رسالة الإسلام بشكل عام قائمة علي الرحمة وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وفتح مكة يدخل ضمن هذا العموم وظهر ذلك من خلال حرص النبي صلي الله عليه وسلم علي عدم إراقة الدماء ولكنه دين يدفع العدوان مشيرا إلي قول الله تعالي وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين.
ويقول القوصي إن الدين الإسلامي ما جاء ليرفع سيفا لأنه دين الرحمة والرفق والإنسانية مؤكدا أن النبي صلي الله عليه وسلم حافظ علي تلك المبادئ عند فتح مكة مشيرا إلي قوله عندما سمع أحد الصحابة يقول اليوم يوم الملحمة يوم تستحل فيه الحرمة فقال نبي الله اليوم يوم المرحمة يوم تعظم فيه الحرمة يوم يعز الله قريشا ويعظم الكعبة ونزع اللواء من سعد بن عبادة ودفعه إلي ابنه قيس.
ويؤكد القوصي أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرغب في الانتقام من أهل مكة الذين طردوه منها ومكثوا علي معاداته وإيذائه بل وسعوا للتخلص منه لأنه راعي تلك العلاقة والقرابة بينه وبين الوثنيين مستشهدا بقوله تعالي قل لا أسألكم عليه أجرأ إلا المودة في القربي, ويذكر القوصي حديثه بعد دخول مكة عندما أمر قادته بألا يقاتلوا إلا من قاتلهم وقال يامعشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا.. أخ كريم وابن أخ كريم فقال صلي الله عليه وسلم اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ويربط القوصي بين فتح مكة وما حدث في ثورة يناير مشيرا إلي سلمية الاثنين ولكن بعض الأحداث التي أسفرت عن وقوع شهداء كانت تتطلب القصاص ومحاسبة المخطئين أيا كانوا فالعفو هنا لا يجوز إلا إذا عفا عنهم أصحاب الحقوق وهذا لم يحدث, وأكد أن النبي صلي الله عليه وسلم نفسه أهدر دم مجموعة من كفار مكة لأنهم ارتكبوا جرائم خطيرة في حق الدولة الإسلامية ورغم رحمته ـ عليه الصلاة والسلام ـ اعتبرها جرائم لا تغتفر وقال اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة.
وحول ظلال حدث الفتح الأعظم علي واقعنا المعاصر يقول الدكتور حسام عقل الاستاذ بجامعة عين شمس لا شك أن فتح مكة الذي وقع بعد فترة معاناة طويلة للمسلمين وتعرضهم لأقصي أنواع الضغوط يمثل في ضمير المسلم بصيرة من الدروس الأخلاقية وأولها القدرة علي تأليف القلوب بعد العداوات الطويلة وجمع النفوس المتناحرة تحت صف واحد فقد كان الفتح مجسدا أقصي صور الجهاد بعد غزوة بدر وكان يمثل أعلي ثمرة حصل عليها المسلمون بعد أن سقط خصمهم سقوطا نهائيا وكان من الملحوظ أن خلق المنتصر هو أبرز ما ميز يوم فتح مكة مشيرا إلي انه عندما اصطحب ابو بكر الصديق رضي الله عنه والده الشيخ الكبير قال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: هلا تركت الشيخ في بيته حتي أكون أنا الذي أتيه؟ فكان ذلك من أوضح علامات تواضع المنتصر.
ويؤكد عقل ان التاريخ قد وقف طويلا أمام يوم الفتح وتباري المحللون كثيرا في تحليل الأبعاد الأخلاقية لهذا النصر الكبير وكان من أبرز من افتتنوا به الكاتب واشنطن ايربنج في كتابه حياة محمد حيث كتب يقول انما صنع محمد بخصومه يوم فتح مكة بعد أن ظفر أخيرا بهم يقطع بأنه تصرف نبي مرسل لا قائد مظفر مشددا علي أنه يتعين علينا كمسلمين أن نستقي من هذا اليوم درسا في التسامح وإذابة الأحقاد القديمة والسعي بصورة جماعية نحو البناء وصهر كل الأطياف والتيارات في منظومة واحدة فيكفي أن يكون مثلنا الرسول عليه الصلاة والسلام حينما قال لخصومه الذين أذاقوه وأصحابه ألوانا من الويل بعد أن انتصر عليهم اذهبوا فأنتم الطلقاء لينقلب الكثير من الأعداء رفقاء درب ومجاهدين في صفوفه بعد ذلك.
ويضيف عقل إن الإسلام بعد الفتح قد شهد انطلاقة كبيرة وهو ما ينبغي وضع دروسه وعبره في الحسبان في مجتمعاتنا الحالية ولا شك أن واقع الأمم والشعوب العربية بعد ثورات الربيع العربي يتطلب أن يستقي القائمون عليها من دروس الفتح درسا رئيسيا يتمثل في القدرة علي التسامي فوق نزعات الانتقام الأعمي حتي مع ألد خصومهم وأن يحكموا كلمة القانون بدلا من نزعات ومزاج الغضب فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يتعامل مع الذين ثبتت عليهم الجرائم بآليات تشريعية وعقابية تنتمي الي دولة المؤسسات حيث أقام البينة والدليل وليس مجرد الادعاء أو الأقاويل مشيرا إلي حديث البيهقي لو يحكم الناس بدعواهم لا دعي رجال أموال قوم ودماءهم ولكن البينة علي من ادعي واليمين علي من أنكر أما من لم يثبت في حقه جرائم فقد حرص الرسول الكريم علي أن يستقطبه للصف المسلم وان يبسط عليه مظلة الأمان والعدالة لتكون الراية الأساسية التي يجب أن نصطف تحتها الآن هي راية العدالة فيقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الطبراني لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.