لافتة كبيرة، حمراء اللون تخطف الأنظار، معلقة على شجرة بناصية شارع هادئ فى حدائق الأهرام، تخبر الزائر بأنه أمام منزل أحد شهداء مجرزة بورسعيد مكتوب عليها «فى الجنة يا مهاب» قام بتعليقها شباب الألتراس رابع أيام عيد الأضحى بعد أن طافوا أرجاء الحى مرددين هتافات تمجد شهداءهم.. «لابس تى شيرت أحمر ورايح بورسعيد راجع وكفنى أبيض وفى بلدى بقيت شهيد، فى الجنة يا شهيد، فى الجنة يا مهاب، الثورة تانى من جديد»، هذه الكلمات كانت كفيلة بدخول والد مهاب الدكتور صالح فرج فى نوبة بكاء هيستيرية لدى سماعها.
نظر إليهم بتأمل ليجد قرة عينه بينهم لكنه لا يأتى، لم يستطع الرجل أن يمسك بالسكين ويذبح الأضحية كما كان يفعل كل عام فى عيد الأضحى. لأن الذى كان يساعده فى ذبحها وتوزيع لحومها على الفقراء قد مات واحتسبه عند الله شهيداً، تحول العيد إلى مأتم جديد، وأغلق الطبيب هاتفه طيلة أيام الأضحى، فقرر شباب الألتراس من أصدقاء مهاب زيارة والده، جاءوا من أنحاء مختلفة قاصدين جهة واحدة وهى منزل مهاب، طالب بكالوريوس الهندسة جامعة القاهرة، لم يخف عليهم شغفه بالعلم وإكمال دراسته بألمانيا، وفعل ما يمهد له إلى ذلك سبيلاً، وحصل على دورات فى اللغه الألمانية، تقديره فى التيرم الأول فى البكالوريوس «جيد جداً» وفى التيرم التانى «شهيد بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف» لأنه مات بطلاً ولم يهرب من الميدان، صرخات نجدة أطفال الألتراس دفعته للعودة إليهم وإنقاذهم من أيدى القاتلين فدفع حياته ثمناً لرجولته، حسب قول والده الدكتور صالح فرج، استشارى جراحة الكلى والمسالك البولية.
زراته «الوطن» فى بيته وقت مباراة نهائى كأس رابطة الأبطال الأفريقية بين النادى الأهلى والترجى التونسى، ورصدت تأثر الأسرة الشديد بغياب فلذة كبدهم وقرة أعينهم. المنزل متسع شديد الأناقة والتنظيم، صورة كبيرة للشهيد مهاب تزين صالة استقبال الضيوف بالدور الأرضى. صوت إذاعة القران الكريم يكسر هدوء المكان، ويستمر ليل نهار دون توقف، يرتدى والده «تى شيرت» أسود عليه صورة ابنه مهاب مكتوب عليها الشهيد مهاب صالح، ملامح الحزن تكسو ملامح الرجل الذى أرهقته كثرة الذهاب من وإلى المحكمة. يتابع عن كثب أوراق القضية. على يقين بأن حق ابنه لن يضيع هباء، شباب الألتراس وعدوه بأنهم لن يتخلوا عن حق رفيق دربهم أبداً.. «يا نجيب حقهم يا نموت زيهم» هكذا يقولون.
قابل دعوة النادى الأهلى بحضور المباراة النهائية بعدم اهتمام مثل باقى أهالى الشهداء الآخرين، فمن يقوى على حضور مباراة بهذا الشكل كلها احتفالات وصخب؟.. «كنت هابكى لو شفت الماتش» هكذا قال. اكتفى الرجل بمشاهدة قناة النادى الأهلى دقائق معدودات ليرى بنفسه هل قاموا بتكريم الشهداء أم لا قبل بداية المباراة كما وعدوا. زار الدكتور صالح النادى الأهلى بالجزيرة صباح يوم المباراة وقال لاثنين من أهالى الشهداء كانا ينويان الذهاب إلى استاد برج العرب: من يذهب إلى المباراة ليس منا، هذه هى إرادة الألتراس الذى قرر عدم حضور المباراة لخلافاته مع إدارة النادى التى خذلتهم مع الشهداء.
يقول صالح: «لم تتحرك إدارة النادى إلا بعد مواقف الألتراس القوية ضدهم، فارتدى اللاعبون شارات سوداء خلال المباريات الأفريقية مؤخراً. ووضعوا صورهم بمجلة النادى الأهلى وهو ما لم يفعلوه بعد الحادث، ربما هدأنا لو قاموا بعمل ذلك من البداية. ابنى مهاب كان يسافر وراء النادى الأهلى فى كل مكان بمصر. كان يعشقه حتى النخاع؛ لأننا أعضاء بالنادى الأهلى. همست له ذات مرة بأنى أخاف عليه لأنه ابنى الوحيد وليس لى غيره إلا شقيقته الكبرى وهى صيدلانية، فقال لى إنه يفرغ طاقته فى الرياضة وهذا أفضل من الجرى وراء المهلكات التى يقع فيه الشباب مثل المخدرات. كان شاباً رياضياً متديناً مات وعمره 21 عاماً. سافر مع جمهور النادى الأهلى إلى تونس خلال إحدى المباريات النهائية التى خسر فيها الأهلى البطولة منذ أعوام قليلة. وأظنه لو كان حياً لذهب معهم إلى هناك فى مباراة العودة مع الترجى. أبكى على ابنى ليل نهار، ورغم أن والدته محامية بالنقض فإنها قررت الابتعاد عن القضية تماماً لأنها فوضت الأمر إلى الله».
يضيف الدكتور صالح فرج، 58 سنة، «كلما رأيت أصدقاء مهاب أشعر بأنى رأيته، أعصابى لن تتحمل مشاهدة المباراة، مهاب كان حاجة جميلة قضى عليها المجلس العسكرى والداخلية وهذا على مسؤليتى. ابنى مات بطلاً مناضلاً أحد ثوار ثورة 25 يناير ولم يتخل عن زملائه وقت معركة استاد بورسعيد، وطلب من زملائه الشباب عدم الهروب لأن معهم أطفالاً صغاراً. استطاع ضرب 4 من البلطجية بمفرده بشهادة زملائه هناك. لكنه عاد إلى ساحة القتال بعد أن استنجد به طفل صغير فضربوه بعصا حديدية على رأسة أردته شهيداً».
والدة مهاب، أمانى محمد بديع، المحامية فى النقض، انفطر قلبها حزناً على ابنها، تشعر بأنه مات لتوه، ترفض التصوير والظهور على شاشات التليفزيون لكنها ترحب بمن يزورها ويواسيها فى ابنها وتفتح له غرفته المليئة بصوره وشهاداته. قالت السيدة: «حق ابنى عند الله، لا أريد شيئاً فى الدينا. مهاب كان ملاكاً يحب الناس ويسعى للخير، كان دائماً شهماً، اختار الله له الشهادة وهى أحسن خاتمة. حب الناس لمهاب هو عزائى الوحيد وهو ما يصبرنى على فراقه. أعتبره الميت الحى. هو الآن أفضل منا بكثير، ارتاح من الدنيا وما فيها، أصدقاؤه من شباب الألتراس لا يتركوننا أبداً. يتصلون بنا دائماً للاطمئنان علينا، يحبوننا لحبهم فى مهاب».
لا يشغل الأسرة معرفة نتيجة المباراة فى شىء، هم فقط مهتمون بنتيجة الحكم فى القضية الذى يتأجل كل يوم، يريدون الفوز فيها بتوقيع أقصى عقوبة على من قتل قرة عينهم.