- كان يراعى مصلحة المسلمين ويسن من الأحكام ما يراه مناسبا لعصره فضاعف حد شرب الخمر وجعله ثمانين جلدة لانتشاره فى البلاد المفتوحة حديثا رغم أن الرسول كان يقيمه «أربعين»
- ضرب أعظم المثل فى المواطنة ومراعاة حقوق الأقليات حينما تخاصم مع «يهودى» محترما حكم القضاء الذى أنصف اليهودى وظلمه فكان سببا فى إسلام خصمه
لم يجتمع أقصى متطرفى الشيعة مع أقصى متطرفى السنة على حب امرئ مثلما اجتمعوا على حب الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه، لو كانت الأسبقية فى الإسلام سببا للحب فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كانت الشجاعة فى الدفاع عن رسول الله ورسالته سببا للحب، فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كان الصبر على الشدائد والرضا بقضاء الله سببا للحب فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كانت الشهامة والإمامة والعدالة سببا فى الحب، فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كانت سنة رسول الله وتقديرها وإعلاؤها سببا فى الحب، فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كانت القرابة لرسول الله سببا فى الحب فقد حازه الإمام واستحقه، وإن كان القرب والنسب لرسول الله سببا فى الحب، فقد حازه الإمام واستحقه.
وللأسف أيضًا لن تجد صحابيا تعرض للظلم التاريخى ولطمس الآثار مثلما تجد عليًا، وذلك لأن الأمويين ومن بعدهم العباسيون كانوا يخشون من نشر أفكار الإمام وآرائه فيزيد تعاطف الناس مع شيعته الذين تعرضوا للكثير من العنت والتنكيل، وكان من مفردات حرب الخلفاء على أنصار الإمام على طمس آراء الصحابى الجليل الكبير، ومحاولة محو آثاره، حتى أن بعض المؤرخين رجحوا أن سبب تغيير الإمام الشافعى لبعض آرائه الفقهية، حينما أتى إلى مصر هو اطلاعه على آراء الإمام التى أخفاها الخلفاء عن أهل العراق والحجاز، وكان الإمام أحمد بن حنبل يتعمد امتداح الإمام على أمام خصومه نكاية فيهم وتحديا لهم.
أما منهج الإمام على فى الفقه ومرجعيته فيه بعد القرآن والسنة فنستدل عليه من بعض ما قاله، وأشهر مقولاته فى هذا الشأن هو «لكل فضيلة رأس ولكل أدب ينبوع، ورأس الفضائل وينبوع الأدب هو العقل، الذى جعله الله تعالى للدين أصلاً وللدنيا عمادا» ومن هذه المقولة نتأكد من أن الإمام على كرم الله وجهه كان يعد العقل نبراسه وهاديه ومقومه ومدعمه، بل كان يعده أصل الدين وعماد الدنيا، بالإضافة إلى كونه رأس الفضيلة وينبوع الأدب، أما منهجه فى السياسة والحكم فكان عدل القرآن ورحمة القرآن، ويعتبر الإمام أن العلم هو المكون الأول لشخصية الحاكم أو الإمام، فيقول «من ينصب نفسه للناس إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه»، وبتلك المقولة يتضح بعض من شروط الإمام عند الإمام ألا وهو الصدق مع النفس والشعب، وعلى من يريد أن يكون حاكما أن يربى نفسى قبل أن يربى غيره، وأن يكون صادقا قبل أن يطلب من غيره الصدق، وأن يكون محافظا على عهوده قبل أن يطلب من الناس الحفاظ على عهدهم وبيعتهم، وأن يلتزم بالعدل مع نفسه وآله وعصبته قبل أن يدعى لنفسه ما ليس فيه.
فى هذا الشأن، حفظت لنا كتب السيرة والتاريخ موقفا، لعل الإمام أراد من خلاله أن يعلمنا قيما يعرف أننا سنفتقدها فى يوم من الأيام ونعود إليها من جديد فنكتشف ما بنا من تبدل واختلاف ونفاق، فهذا هو أمير المؤمنين وإمامهم، المبشر بالجنة وزوج ابنة رسول الله يتنازع على درع مع يهودى، ويذهبان للقاضى ليحكم بينهما فيسأله القاضى يا أمير المؤمنين هل من بينة؟ فقال: نعم الحسن ابنى يشهد أن الدرع درعى، فقال القاضى: شهادة الابن لا تجوز، فقال الإمام: سبحان الله.. رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ فقال القاضى: يا أمير المؤمنين ذلك فى الآخرة، أمّا فى الدنيا فلا تجوز شهادة الابن لأبيه.. فقال على: صدقت.. الدرع لليهودى، فقال اليهودى: أمير المؤمنين قدمنى إلى قاضيه، وقاضيه يقضى عليه؟! أشهد أن هذا الدين على الحق، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وأن الدرع درعك يا أمير المؤمنين، سقطت منك ليلاً. فأهداه أمير المؤمنين الدرع».
موقف واحد يحمل لنا عشرات المعانى والقيم التى ننادى بها هذه الأيام ونفتقدها، فأى قضاء على التمييز أكثر من أن أحد المبشرين بالجنة وأمير المؤمنين يقف أمام القاضى فى خصومة مع «يهودى» فيحكم القاضى لليهودى؟ وأى معنى للمواطنة أشمل وأجمل من هذا التمثيل الصادق؟ وأى فصل للدين عن السياسة أكثر من نزع كل معانى القدسية والتبجيل عن الحسن حفيد رسول الله وأحد سادة شهداء الجنة واعتبار فقط «ابن» يشهد لأبيه وإبطال هذه الشهادة وقول القاضى إن الحسن أمامه مجرد «ابن» يشهد لأبيه، وأى احترام للقضاء أكثر من أن يمتثل أمير المؤمنين وقاضى قضاتهم لحكم القاضى دون أن يطالب بحصانة أو يحتمى بنسب؟
ولأن الإمام كان يعرف أن اللغة العربية هى مفتاح أسرار القرآن والسنة، فقد وضع أساس علم النحو وبه حافظ على القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة من اللبس وتبدل المعانى، وقد تواتر أن أبا الأسود الدؤلى واضع علم النحو ومنظّره الأول شكا للإمام على من «شيوع اللحن» أى خطأ الناس فى إعراب الكلمات، فقال له الإمام اكتب ما أملى عليك ثم أملاه أصول علم النحو ووضع له تعريفا للاسم وللفعل والحرف وأسماء الإشارة، ثم قال يا أبا الأسود انح هذا النحو، فعرف هذا العلم بهذا الاسم من يومها، كما كان شاعرا مجيدا وكان يكتب الشعر فى حياة الرسول.
ومن دلائل أهمية فلسفة إعمال العقل التى تبناها الإمام على هو حفاظه على أرواح المسلمين من الإزهاق بالباطل، وحفظت لنا كتب السيرة والتفسير إشارات ومواقف ظهر منها مدى تفقه الإمام على فى الدين ومدى وقوفه على أسرار اللغة والآيات، وكأنه يعلمنا درسا غاليا يقول فيه إن العقل هو السبيل والهادى، ولولا إعمال الإمام على لعقله واجتهاده فى سبيل اكتشاف حكمة القرآن الكريم لسفكت دماء المسلمين بغير حق، ففى واقعة شهيرة حفظتها كتب الفقه أن رجلا أتى الخليفة ويقال إنه عثمان بن عفان وفى روايات أخرى عمر بن الخطاب قائلا إن امرأته حملت بعد ستة أشهر فقط من زواجهما فأمر الخليفة أن تأتيه المرأة ليقيم عليها الحد، فدخل عليه على بن أبى طالب رضى الله عنه فقال إن الله تبارك وتعالى يقول فى كتابه «وحمله وفصاله ثلاثون شهراً» وقال «وفصاله فى عامين» وأن الله قال «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» وبناء على استقرائه لآيات الله فى شمولتيها وعدم اقتطاعها من سياقيها أكد للخليفة أنه يجوز أن تلد المرأة بعد ستة أشهر فقط لأن الله أكد أن الفصال أى الإرضاع فى حولين كاملين وأن الحمل والفصال مدتهما ثلاثين شهرا وبطرح الحولين «24 شهرا» من الثلاثين شهرا يتبقى لنا ستة أشهر هى مدة الحمل، وبهذا الحكم المستبصر تم تبرئة المرأة والحفاظ على دمها وسمعتها.
مثال آخر على فطنة الإمام وإلمامه بعلوم الدنيا ما دار من حوادث بين الخليفة عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب الذى كان يعده عمر مستشاره الأول وقاضيه العالم، فقد أمر عمر بإقامة الحد على امرأة زنت فمنعه الإمام قائلا إن هذه المرأة «مبتلاة» أى مجنونة، وذكره بحديث الرسول القائل «رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلى حتى يعقل» وتأكيدا على أهمية أن نراعى مصلحة العباد فى تطبيق الحدود وأن نتعامل مع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام بمرونة وسلاسة وإن اقتضى الحال عدم الالتزام بها حرفيا إن تنازعت ومصلحة المسلمين ضاعف الإمام على عقوبة شرب الخمر وجعلها ثمانين ضربة وكان الرسول عليه الصلاة والسلام حددها بأربعين، لكن الإمام وجد أن شرب الخمر استشرى فى البلاد خاصة الأمصار المفتوحة حديثا فخشى أن تتوغل هذه الرذيلة فضاعف الحد ملتزما بروح الإسلام الذى يأمر بالعدل ويحافظ على المجتمع ومتبعا حكمة الرسول من تنفيذ الحد وليس حرفيته.
وكأقصى ما يلتزم به الفرد من حقوق الإنسان منع على بن أبى طالب عمر بن الخطاب من إقامة الحد على امرأة زنت وحملت سفاحا، فقال له أنه لا سلطان لك على ما فى بطنها، ثم قال له لعلك انتهرتها أو أخفتها فقال له قد كان ذلك فقال الإمام: أو ما سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول: «لا حد على معترف بعد بلاء» فأخلى عمر سبيلها، امرأة أخرى أتت عمر بن الخطاب وادعت أن رجلا كانت تهواه اغتصبها وأتت بثوبها قائلة إن عليه أثر منىّ الشاب فسأل عمر النساء فقلن له: إن ببدنها وثوبها أثر المنى، فهم بعقوبة الشاب، فاستغاث الشاب مقسما على أنه لم يمسس المرأة، فاستشار عمر بالإمام فنظر على إلى ما على الثوب، وطلب ماء ساخنا وصبه على الثوب فجمد ذلك الذى كانت تدعى المرأة أنه منى وظهر أنه بياض بيض ثم أخذه واشتمه وذاقه، فعرف طعم البيض، وزجر المرأة فاعترفت، وأعان الإمام الفاروق فى الكثير من المواقف المستحدثة وساعده فى إقامة الدولة الجديدة، ومثال ذلك ما ورد تفصيله فى حلقة الأمس عن مسألة تقسيم أرض العراق بين الفاتحين ورغبة بعض الصحابة فى ذلك ومخالفة عمر لرأيهم برغم أنهم احتجوا عليه بالقرآن والسنة، فاستشار الفاروق الإمام فى ذلك فكان رأيه موافقًا لرأى الخليفة فأخذ برأيه، هذا هو على بن أبى طالب الذى ولد فى الكعبة ومات فى المسجد المبشر بالجنة، والذى تدلنا حياته ومنهجه على مدى تقديسه للعقل ومراعاته للعدل.