◄إن كان للإسلام فضل على العالمين فلأنه حطم الأصنام وأزال الأوهام ودمر أحجار تعثر الإنسانية وفتح الطريق أمام العلم والثقافة والإبداع والتأمل والاعتبار والتذكر والاحتشاد والجهاد، وعبر أربعة عشر قرنا من الزمان منح الإسلام للبشرية دروسا بليغة فى التحرر من الجمود والثورة على الأوضاع الراهنة والانعتاق من أسر الكهنة واستبدادهم، ولأننا على أبواب بناء دولة جديدة، وقد أهل علينا شهر النور والقرآن، فلا أجمل من أن نلتمس الطريق مستنيرين بآفاق رحبة فتحها أمامنا فقهاء التنوير الذين حرروا العقل من وهم التعلق بالكهنة، ووضعوا من الإسلام آلية للتطور والتقدم والنمو، وهنا عبر 30 حلقة نحاول أن نكتشف أسس التطور التى وضعها أعمدة الفكر الإسلامى بقديمه وجديدة، علنا نجد الهدى.
◄قال إن غرض الشريعة هو الحفاظ على المقاصد الخمسة وهى الدين والنفس والنسل والعقل والمال.. وأكد أن الحفاظ عليها هو تطبيق للشريعة.
◄حارب البدع المنتشرة فى الأندلس وجدد شباب الإسلام فى القرن الخامس وأصبح مرجعاً لكل الفقهاء المجددين فى العصر الحديث.. تتلمذ على كتابات العز بن عبدالسلام والإمام الغزالى والإمام مالك.
لا يكاد اسمه يغيب عن حلقات الدرس وكتابات المشايخ الأساتذة الكبار منذ مطلع القرن الماضى، فقد وجد الجميع ضالتهم فى هذا الرجل الذى وضع نظرية «مقاصد الشريعة»، فنال الاستحسان، وأصبح محل الاستشهاد، وتناول الفقهاء سيرته بكل احترام وإكبار، فبعد ثمانية قرون من ظهور الإسلام، وبعد عشرات الأئمة وعشرات المذاهب، وآلاف الكتب وآلاف الرسالات وملايين الخطب والمراسلات وملايين الأسئلة والفتاوى، كان لابد من ظهور عالم كبير، يجمع كل هذا فى إطار جامع ليخرج لنا بنظرية حاكمة للشريعة الإسلامية وفلسفتها وحكمتها، وكان هذا العالم هو الإمام الشاطبى.
هو إبراهيم بن موسى بن محمد أبوإسحاق اللخمى الغرناطى، الشهير بالشاطبى، وكنيته التى عرف بها أبوإسحاق، المولود بغرناطة الأندلس، تلك الجنة المفقودة التى أخرجت لها عشرات العلماء الأجلاء، وعشرات الفلاسفة العظام، وعشرات المتصوفة الأقطاب، وآلاف الكتب المهمة التى أسهمت فى تشكيل وعى الثقافة العربية، وطورته وجعلت منه أحد أهم روافد الثقافة الإنسانية. وقد عرف عن الإمام الشاطبى أنه لم يكن يخرج من غرناطة التى ولد وتربى وتعلم بها، وقد كان غيره يسافر إلى الأقطار المختلفة لاستجلاب العلم وتحصيل الدروس، أما الشاطبى فلم يكن ليسافر والعلم حاضر عنده، والعلماء متحلقون حوله، يقطف من ثمار معرفتهم وخبرته دون تعب أو شقاء.
تاريخ ميلاد شيخنا الكريم غير معروف على وجه التحديد، لكن كتب التاريخ حفظت لنا وفاته جيدا، وذلك لأن وفاته كانت حدثا كبيرا، فقد اهتزت الأوساط العلمية بفاجعة رحيل الإمام العالم يوم الثلاثاء من شهر شعبان سنة 790 هجريا، بعد عمر حافل بالإنجاز، عامر بالإبداع، فقد تتلمذ على يد الإمام الشاطبى الكثير من العلماء الأجلاء المشهود لهم بالفضل فى العلم، والذين نهلوا من معين الشيخ وعلى يده تربوا وتتلمذوا وعرفوا، وهو الإمام الذى درس الفقه من أصفى منابعه، وتفقه فى اللغة العربية وفنونها، فوقف على أسرارها وجمالياتها وقواعدها من نحو وصرف، كما درس تفسير القرآن ووعى حكمته، كما درس علوم الحديث والقواعد الفقهية، فتكونت له حصيلة معرفية ضخمة مكنته من أن يبدع نظريته التى أدهشت المعاصرين قبل القدماء، وكان طبيعيا أنه حينما تعرض كتب التراجم والسيرة لشخصية هذا الرجل تصفه بالقول: هو الإمام العلامة، المحقق القدوة الحافظ الجليل المجتهد الأصولى المفسر الفقيه، المحدث اللغوى، النظارة المدقق البارع، صاحب القدم الراسخ والإمامة العظمى فى سائر فنون العلم الشرعى، والإمام المحقق العلامة الصالح.
«إنى- ولله الحمد- لم أزل منذ فتق للفهم عقلى، ووجه شطر العلم طلبى، أنظر فى عقلياته وشرعياته، وأصوله وفروعه، لم أقتصر منه على علم دون علم، بل خضت فى لجاجه خوض المحسن للسباحة، وأقدمت فى ميدانه إقدام الجرىء، إلى أن منّ علىّ الرب الكريم، الرؤوف الرحيم، فشرح لى من معان الشريعة ما لم يكن فى حسابى».. هذا ما يقوله الإمام أبوإسحق الشاطبى بنفسه عن نفسه، والذى يقر بأن نظريته فى الشريعة لم تكن فى حسبانه، وإنما من فتح الله عليه، وهذا ما أقره الفقهاء قديما وحديثا، فقد اعتبروا «نظرية المقاصد» من أهم نظريات الفقه الإسلامى بعد نظرية الإمام الشافعى فى تأسيس أصول الفقه، ولذلك اعتبره البعض مجدد المائة الثامنة، وباعث النهضة فى علم الفقه، لكن كما هى العادة لم يسلم الإمام الشاطبى، وهو السنى الأصولى المتخذ من أقوال السلف نبراسا، من إلصاق العديد من الاتهامات به، فقال عنه البعض إنه يدعى أن الدعاء لا ينفع، لأنه لم يكن يلتزم بالدعاء الجماعى فى الصلاة، وقال آخرون إنه تشيع لأنه لم يكن يذكر الخلفاء الراشدين فى الخطب، وهو الأمر الذى جعله ينشد شعرا قال فيه: «بُليتُ يا قومِ والبلوى منوعةُ.. بمن أُداريه حتى كاد يُردينى/دفع المضرة لا جلبُ لمصلحةٍ فحسبىَ الله فى عقلى وفى دينى».
«اتفقت الأمة، بل سائر الملل، على أن الشريعة الإسلامية وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، هى: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وعلمها عند الأمة كالضرورى.. هذه هى النظرية الجامعة التى استخلصها الإمام بعد ثمانية قرون من الاجتهاد الفقهى فى الشريعة الإسلامية، بكلياتها وفروعها، قائلاً إن هذه الكليات الخمس أو المقاصد الخمسة من الأمور التى لا يرقى إليها الشك، فليبحر الفقهاء مهما أبحروا، وليتكلم فى أمور الشريعة من يتكلم، لكن الثابت على طول الدهر أن هدف الشريعة الأسمى ومقصدها الأنبل هو الحفاظ على هذه الكليات الخمس، وأى اجتهاد فقهى يخالف مبدأ الحفاظ على هذه الكليات باطل، كما أن أى اجتهاد فقهى يحافظ على هذه الكليات فهو قائم بإذن الله.
وبرغم أن الإمام الشاطبى لم يخترع هذه النظرية، ولم يأت بها من عدم، لكن وضعها والتأصيل لها كفل لها أن يقترن اسمه باسمها، فما أن يذكر الشاطبى حتى يذكر علم المقاصد، وما أن يذكر علم المقاصد حتى نترحم على الإمام الشاطبى، لكن الإمام لم يكتف بإطلاق أحكامه هكذا دون تدليل، فقد حرص على توثيق هذه الكليات من الكتاب والسنة، مؤكدا أن الله تعالى ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أكدا أهمية تلك المقاصد منذ بداية البعثة فى مكة، مروراً بالهجرة إلى المدينة، ثم خطبة الوداع التى شهدت اكتمال الدين فى مكة أيضا، فقد حفل القرآن الكريم بذكر هذه المقاصد والأمر بالحفاظ عليها، فحفظ الدين لا يحتاج إلى دليل من الكتاب لإثباته لأنه معلوم بالضرورة، أما حفظ النفس فقد أمرنا الله به فى قوله «وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ»، وقوله: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ»، وحفظ النفس يتطلب أيضا حفظ العقل بتحريم المسكرات، وحفظ النسل ثابت لا محالة بتحريم الزنى وتفحيشه، والأمر باجتنابه، وإقامة الحد على مرتكبه، كذلك حفظ المال بتحريم أكل الأموال بالباطل، والنص على تحريم السرقة، والعمل على مراعاة حقوق المسلمين المالية.
ولتعظيم مكانة هذه الكليات الخمس فى الشريعة فقد حرص المولى عز وجل على تذليل الصعاب أمام مهمة الحفاظ عليها، فأتاح الرخص بعد الرخص، لكى يرفع عن الناس الحرج، ويضمن أن تدوم «مقاصد الشريعة» وألا تتبدل مهما تبدلت الأزمان والأحوال، فقد حفظ الله إقامة الصلاة بإتاحة الرخص فى الطهارة والوضوء، وتيسيرها على الناس بالتيمم فى حالة عدم وجود ماء طاهر، وأباح صلاة القصر، ورفع القضاء فى حالة الإغماء، وأتاح الصلاة قاعداً وعلى جنب، كما أتاح الإفطار فى رمضان فى السفر والمرض، كما حفظ النفس بتحليل ما تم تحريمه فى حالة الاضطرار، كتحليل أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب المحرمات فى حالة العطش الشديد، كما أحل الزواج بدون تسمية الصداق تيسيرا، لحفظ النسل، كما أباح الطلاق والخلع، وفى المال حلل الاقتراض الحسن، والتمتع بالطيبات من الحلال، وتبشيع الإسراف والتبذير، وبالنسبة للعقل فقد رفع الحرج عن المكره والمضطر إذا انتباه مرض أو عطش أو جوع.
وقبل أن نخوض فى جزئيات نظرية المقاصد، لابد هنا أن نؤكد أن الإمام الشاطبى لم يخترع تلك النظرية، إنما وجدها فى كتب الفقه وفتاوى الأئمة ملقاة على دون تأطير ولا جامع ولا تدليل شاف فجمعها وأطرها ودلل عليها، وهذا ما انتبه إليه الشاطبى نفسه الذى كان كثيرا ما يشير إلى مجهود سابقيه فى كتابيه «الموافقات» و«الاعتصام»، وسابقوه هؤلاء هم الإمام الجوينى إمام الحرم المكى، والإمام الغزالى، والإمام العز بن عبدالسلام، وهم من سبقوه فى هذا التقسيم حينما حصروا المصالح الضرورية فى خمس، هى الدين والنفس والعقل والنسل والمال، وقد أمرنا الله أن نتبع الإحسان، ونعمل الصالح فى جميع آيات الذكر الحكيم، واستفاض الإمام العز بن عبدالسلام فى التأكيد على هذه النظرية وجعلها مثل أصول التشريع، حيث قال إن العلماء قد أجمعوا على اختلاف تخصصاتهم ومذاهبهم وعصورهم على كون الشريعة قد تضمنت الحفاظ على ما أسماه «أمهات المصالح» أو «المصالح المحفوظة»، مؤكدين أن كل ما يحافظ على هذه المصالح فهو مصلحة، وكل ما يضيع هذه المصالح فهو مفسدة ودفعها مصلحة، بل انتقل الإمام بتلك الفكرة من حيز النظرية إلى حيز التطبيق، حيث رجع إليها فى الكثير من الفتاوى التى أفتى بها والتى أشرنا إليها فى الحلقة السابقة، فكان بهذا مجددا فى دين الله، محافظا على شريعته وعباده، وفى الحقيقة فإن وجود نظرية «المقاصد الخمسة» سابق أيضا على هؤلاء الأئمة العظام، ويراها البعض تطويرا لفكرة «المصالح المرسلة» التى أصلها الإمام مالك ففتح بها باب الاجتهاد على آخره، بل إن المتأمل فى تاريخ الفقه الإسلامى يجد أن الصحابة الكرام قد اتبعوا هذه النظرية، ولنتأمل آراء الفاروق عمر بن الخطاب وقراراته التى كان يضع نصب عينيه هذه المقاصد وهو يتخذها، فقد حفظ النفس والمجتمع بإبطال حد الردة فى عام المجاعة، وحفظ الدين والفتوحات حينما قرر عدم تقسيم الأراضى الزراعية على الجنود الفاتحين والصحابة، وحفظ مال المسلمين حينما أبطل سهم المؤلفة قلوبهم. والناظر إلى فتاوى عمر وقراراته يتأكد من أنه كان يعلى مصلحة المسلمين، ويضعها فوق كل اعتبار، ما فى هذه الإجراءات والقرارات سوى الحفاظ على مقاصد الشريعة الخمسة.
وسيرا على نهج الإمام العز بن عبدالسلام سار الإمام الشاطبى ليطبق تلك النظرية، كتطبيق فقهى عملى، فقد عمل بها وهو يعالج موضوع انتشار البدع فى غرناطة، التى حاربها وهاجمها وفند حججها، فقد قسم المعاصى إلى ثلاثة أنواع، قائلا: منها صغائر ومنها كبائر، فالكبائر هى تلك التى تهدر قيمة الحفاظ على المقاصد الخمسة أو «الضروريات»، أما الصغائر فهى التى لا تتطرق إلى تلك الضروريات، وهى تقع فى مرتبة أقل بالتأكيد، وفى كل كتابات الإمام الشاطبى تجد هذه الجملة وكأنها من المسلمات الأبدية، فيقول الإمام: هناك مسلمة شرعية، وهى أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد فى العاجل والآجل، ويقول بعبارة أخرى أكثر جزما «المعلوم من الشريعة أنها شرعت لمصالح العباد، فالتكليف كله إما لدرء مفسدة، وإما لجلب مصلحة أو لهما معا»، وهو دائما ما يؤكد أن المصالح هى ما تؤدى إلى الحياة لا إلى هدمها، فيقول: «المصالح المجتلبة والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى، لا من حيث أهواء النفوس فى جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية»، وهنا يفرق الإمام بين «المصلحة» و«الأهواء» ذاكراً قول الله تعالى: «وَلَوِ تَّبَعَ لْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ»، لكن الإمام الشاطبى يضع تعريفا لمفهوم المصلحة يكاد يهدم تلك النظرية من أساسها، فهو يقول إن المصالح تعرف من المفاسد بالنقل وليس بالعقل، وإن الشىء الحسن حسن لأنه مذكور فى الأثر، والشىء القبيح قبيح لأنه مذكور أيضاً فى الأثر، وهو ما يقتل الاجتهاد ويجعل نظريته حشوا زائدا إن لم تتطور وتكون مواكبة للعصر ومستحدثاته التى لم ترد فى كتاب ولا سنة، وهو بذلك لا يغالط نظريته فقط وإنما يغالط أيضاً مشايخه الذين استقى منهم تلك النظرية، فها هو الإمام العز بن عبدالسلام يقر بأن «معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع أن تحصيل المصالح المحضة ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان محمود حسن»، ويضيف: واتفق الحكماء على ذلك وكذلك الشرائع على تحريم الدماء والأموال والأعراض، وإن اختلف فى ذلك، فالغالب أن ذلك راجع لاختلاف فى التساوى والرجحان. كما قال الإمام العز بن عبدالسلام إن المصالح والمفاسد الدنيوية تعرف بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، وأن من أراد أن يعرف المناسبات فى المصالح والمفاسد راجحها من مرجوها فليعرض ذلك على عقله.
وتدل الروايات والآيات والأحايث على أن العقل وحده كفيل بمعرفة الحسن من القبيح، فقد روى عن قتادة المفسر التابعى أنه قال: «ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به فى الآية الكريمة «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» وليس من خلق كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدح- أى ذم- فيه وإنما نعى عن سفاسف الأخلاق ومذامها»، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فكيف لأهل الجاهلية أن يعرفوا أسباب بعثة الرسول إلا إذا كانوا يعرفون بعقلهم مكارم الأخلاق من خبائثها، وتدلنا أيضا شهرة النبى صلى الله عليه وسلم فى مكة قبل البعثة بأنه الصادق الأمين على أن القيم العظيمة كالصدق والأمانة كانت معروفة متبعة ومستحسنة قبل البعثة، وهى جزء مما فطر الله البشر عليه، وقد قالت أم المؤمنين السيدة خديجة بنت خويلد للرسول حينما خشى على نفسه من الوحى: «كلا، أبشر، فوالله ما يخزيك الله أبداً، فوالله إنك تصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقرى الضعيف وتعين على النوائب»، ولعله من غير المفهوم أن ينكر الإمام الشاطبى معرفة الحسن من القبيح قبل نزول التشريع وقد وصف الله الخمر والميسر بأنهما «رجس»، ووصف الزنى بأنه «فاحشة»، ووصف المحيض بأنه «أذى».
ولقد كتب الإمام ابن القيم الجوزية فى كتابه «مفاتيح السعادة» أن قول الله تعالى: «ويحل لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ» تصريح واضح بأن الحلال كان طيبا قبل أن يحلله الله، والخبيث كان خبيثا قبل أن يحرمه الله، وأن الله كسا بحله طيباً على الطيب، وكسا الخبيث بتحريمه خبثا على خبثه، ويدل قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»، على أن الفواحش فواحش بنفسها لا تستحسنها العقول فتم تحريمها لفحشها، ويفصل الإمام ابن الجوزية قوله بالشرح مسترسلاً: إن غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفضيله.
غير أن الإمام الشاطبى، وهو الذى اعترض على الإمام العز بن عبدالسلام فى احتكامه إلى العقل فى معرفة المصالح والمفاسد، تناقض مع نفسه حينما أقر ما أقره «العز» محتكما إلى عقله، فقد أقر الباحثون والفقهاء أن الشاطبى تتلمذ على كتابات «العز» خاصة فيما يتعلق بالمصالح والمفاسد، والنهى عن المشقة، فيقر بأن الإسلام لم يأت للتكدير على الناس، بل للتخفيف عنهم ومراعاة لمصالحهم وراحتهم، فنهى عن مشقة الاغتسال فى البرد، والقيام لصلاة الفجر، ومشقة الصوم والحج، وهنا تجدر الإشارة إلى أن نظرية الإمام الشاطبى لم تكن لتأخذ شهرتها، ولم تكن لتوجد أصلاً لولا اعتماده على المذهب المالكى الذى يعد مذهب المصلحة والاستحسان، وهو المذهب الحازم فى درء المفاسد، والبحث عن علة التكليفات فى المعاملات وأسبابها، ليتحقق بالسبب ما لا يتحقق بالنص، ولولا أن الإمام الشاطبى وجد تراثا زاخراً بالعلم والاجتهاد منذ أيام الصحابة، مرورا بالأئمة الأربعة الكبار، والإمام الجوينى، والغزالى، والعز بن عبدالسلام، لما وضع هذه النظرية الكبيرة التى ستصبح فيما بعد نبراسا للمصلحين والمجددين ليطورا فيها، ويضيفوا عليها، ويكسبوها مرونة وأصالة، مستدركين ما فات الإمام الرائد الذى يكفيه وضع النظرية التى يتغنى بها الجميع الآن.