قال الوالى العثمانى للشيخ الشبرواى شيخ الأزهر: المسموع عندنا أن مصر منبع الفضائل والعلوم، وكنت فى غاية الشوق إلى المجىء إليها، فلما جئتها وجدت أن السماع عنها خير من رؤيتها، فيحاول الشيخ أن يغير وجهة نظره قائلا: هى ما سمعتها تماما وهى معدن العلوم والمعارف، لكن هذه الإجابة لم تقنع الوالى فقال له مستنكرا: لكن أين هى؟ وأنتم أعظم علمائها وقد سألتكم عن العلوم والمعارف فلم أجد عندكم غير بعض الفقه وبعض الوسائل ونبذتم المقاصد؟ فقال له الشيخ: نحن فى الأزهر لا نهتم بهذه العلوم ولا الرياضيات إلا بقدر ما يمكننا من الحكم فى المواريث؟ فأحرجه الوالى قائلاً: لكن العلوم والرياضيات لازمة للعلم الشرعى، وإلا فكيف ستحدد مطالع الشهور ومواقيت الصلاة واستقبال القبلة؟ ولما شعر الشيخ بالإحراج أراد أن يتهرب من السؤال فقال: نعم نعم.. إن معرفة ذلك من فروض الكفاية التى إذا قام بها البعض سقطت عن الآخرين، وهذه العلوم تحتاج إلى أدوات وصناعات وأهل الأزهر معظمهم فقراء فيندر فيهم القابلية لذلك، ولدينا من يكفينا فى هذا الشأن وهو الشيخ حسن الجبرتى، وهو عالم بهذه الأشياء ويكفينا عن الاحتياج، فطلب الوالى أن يرى هذا الشيخ «الوحيد» الذى يعرف العلوم والرياضيات، ولما قابله أعجب به وصاحبه، وبعد ذلك كان الشيخ الشبراوى كلما رأى «حسن الجبرتى» والد المؤرخ الشهير عبدالرحمن الجبرتى قال له: سترك الله كما سترتنا عند هذا الباشا فلولا وجودك لكنا جميعاً عنده حميراً.
هذا الحوار هو ما ينقله الكاتب الإسلامى الكبير محمد عمارة فى كتابه عن رفاعه الطهطاوى الذى جاء بعنوان «رفاعة الطهطاوى رائد التنوير فى العصر الحديث» ليدلل على ما وصل إليه حال البلاد قبل ميلاد العالم الأجمل فى تاريخ الشرق رفاعة رافع الطهطاوى، إذ يقر شيخ الأزهر وهو أعلم أهل مصر وقتها والجالس على رأس نخبة مثقفيها أنه لولا وجود شخص واحد لكان الجميع حميراً، بل لا يتورع عن القول إن الجبرتى الأب «سترنا» من الفضيحة وكأننا كنا بجهلنا عرايا، ولم نجد ما يسترنا إلا رجل واحد من أصول إرتيرية، ليكفينا مرار الفضيحة.
وفى الحقيقة فإنه قلما يجد الواحد مفكراً إسلامياً كبيراً ينصف باعث النهضة المصرى «رفاعة الطهطاوى» بقلبه وبحثه مثلما فعل الدكتور محمد عمارة وهو المفكر الإسلامى الكبير الذى لم يضع عصابة التخلف على عينيه ولم يردد ما يردده من يحجرون على الإسلام ويعتبرون تعلم اللغات الأجنبية مفسدة، فحقق المفكر الكبير أعمال الأب الروحى للثقافة المصرية وعكف سنين على دراسة ترجماته ومؤلفاته وإنجازاته، مؤكداً أن أمير الشعراء الشاعر الكبير أحمد شوقى حينما نعت الطهطاوى بأنه «لأبناء البلاد أبا» لم يكن يرسم صورة خيالية، وإنما كان يقرر أمراً واقعا، فرفاعة ابن صعيد مصر والمتحصن بحبها والمتصدر لنهضتها كان نعم الأب لحضارة أيقظت الشرق كله من ثباته العميق وضخت فيه روح الوطنية والعروبة والإسلام فسارت مصر فى مصاف الدول الأولى فى العالم متحدية كل المعوقات التى تقف أمامها فى وقت كان فيه جيراننا يعبدون الأشجار والأحجار.
كانت المهمة تنتظر من يقوم بها، وكان الحلم الذى حلمه الشيخ «حسن العطار» متهيئا للتحقيق، ولم يكن ينقص مصر سوى أن يعلن أحد أبنائها عن استعداده للقيام بهذه المهمة، وكان لها رفاعة الذى بحث واستقصى وعلم وخبر، وحفظ القرآن ودرس الأحاديث واللغة والفقه فى أزهرنا الشريف لتتحصن هويته من العاصفات، وليسافر إلى فرنسا التى كانت تبتعد عنا بتقدمها آلاف الأميال، فنهل رفاعة من علومها ووقف على أسباب تقدمها ومتعجلا أخذ ينقل منجزاتها الحضارية والأدبية تماما كما فعل جيش المترجمين فى الدولة العباسية التى نقلت علوم الحضارات الأخرى بدءا، فأصبحت فى سنوات معدودات أكبر إمبراطورية فى العالم، والمستنيرون من الإسلاميين الذين درسوا الدين وتعلموا العلم ووقفوا على أسباب تقدم الدولة الإسلامية الأولى يعرفون ذلك جيداً، فها هو الدكتور محمد عمارة يقول فى مقدمة كتابه عن رفاعة الطهطاوى إن «اليونان أخذوا عن المصريين القدماء، والعرب أخذوا عن اليونان والفرس والهنود وأوروبا بكل أجناسها وأقوامها أخذت عن العرب، إذن من المفيد بل من الضرورى أن ندخل نحن الميدان من جديد بعد أن تخدرنا بالخرافة قرونا ولابد أن نأخذ عن أوروبا ونصل هذا الزاد الحضارى بالمشرق من صفحات حضارتنا القديمة».
يشاء القدر أن يكون الفقير هو باعث النهضة فى ربوع مصر والعالم العربى والإسلامى، وهو الذى وصفه «عمارة» بأنه ناضل نضال أصحاب الرسالات من أجل أن تصل الثقافة والحداثة إلى مصر فتعمر مطابعها بفضل ما كتبه وترجمه هو وتلامذته وتتقدم جيوشها بفضل عمله بها ونقلها للعلوم العسكرية أثناء زيارته لباريس، وبرغم أن منجز «الطهطاوى» فى الجانب الفقهى والدينى يسير، لكن هذا لا يمنعه من أن يكون من أكبر فقهاء التنوير فى العالم الغربى، بل إن شئت قل أكبرهم، ذلك لأنه طلب العلم وهى الفريضة الإسلامية الكبرى ونقله فصار من أفاضلنا، وهو الذى جاهد بعلمه فحافظ على هويتنا وبلدنا، وهو الذى كون بضخه الدماء الجديدة فى أوصالنا شخصيتنا الحديثة التى وقفت أمام المحتلين بالمرصاد، وإن كان من الثابت أن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل فقد آمن رفاعة بوطنه ودينه وهويته، وعمل بكل ما أوتى من قوة على تدعيمهم، فكان مؤمناً خالصاً يحفظ كتاب الله ويجتهد فيما لا يجد فيه نصا، ويبنى حضارة جديدة متبعا سنة الأولين الذى كانوا يعملون بحديث رسول الله «الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أولى بها».
فى مدينة طهطا سنة 1801 بأقاصى صعيد مصر ولد هذا الرجل يعانى من الفقر بعد أن جرد محمد على آباءه مما كانوا يتحصلون عليه من حصيلة الأراضى الزراعية باعتباره أحد الأشراف من آل بيت النبوة، فقد كان نسب والده يتصل إلى رسول الله مارا بالإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب كرم الله وجهه، وكان لنشأة رفاعة فى هذه الأجواء وعمل أخواله بالقضاء الشرعى أكبر الأثر فى تكوينه الشخصى والأدبى والإسلامى، فقد حفظ صغيراً ما يدرسه طلاب الأزهر كما حفظ القرآن الكريم كاملاً وصار عالماً بالنحو والفقه، وهو ما أهله للالتحاق بالأزهر الشريف وهو ابن ستة عشر عاما، وهنا درس أحاديث البخارى ودرس جامع الجوامع فى الأصول ومشارق الأنوار.
كما درس الحديث والحكم لابن عطاء الله السكندرى، ودرس تفسير الجلالين، ودرس مغنى اللبيب، وشرح ابن عقيل وغيرها من معارف الفقه والحديث والعلوم الشرعية على يد أكبر علماء الأزهر وشيوخه، وكان للشيخ «حسن العطار» أعظم الأثر فى حياة رفاعة، حيث كانت تلمذته على يديه مستمرة منذ يومه الأول فى الأزهر، وحتى سفره مبعوثا لباريس، وكان يشركه معه فى قراءة معارفه التى كان يداوم الحديث عنها ويطالعها فى ما لا يتوفر عند غيره من علماء الأزهر، وهنا يجدر القول بأن بذور حلم النهضة التى حلم بها العطار قد ألقاها فى حقلين فأثمرا وطناً حديثاً متحضراً، أما الحقل الأول فهو محمد على باشا الذى أنشأ ما كان يحلم به العطار من مدارس للطب والهندسة والرياضيات، والحقل الثانى هو رفاعة رافع الطهطاوى الذى عنى بالحياة الأدبية، ونقل علوم الغرب إلى مصر، فكانت البداية الحقيقية لنهضتها من كابوس التخلف.
يتخرج الفقر من الأزهر، وهو بعد مازال فقيرا لا يجد ما يعينه على حلمه، فيعمل مدرسا بالأجرة فى بيوت المماليك يعلمهم اللغة والدين، وهو يعمل بالأساس مدرسا بالجامع الأزهر، ثم واعظا بالجيش مستمراً فى عمله هذا حتى العام 1826، حتى يرشحه شيخه الذى آمن بعبقريته وتفرده للسفر واعظا مع بعثة مصر إلى باريس لتعلم العلوم الغربية ونقلها إلى مصر، ومن الواضح أن رفاعة لم يكن منسجماً فى الحياة الفرنسية، وكان منكبا فقط على دراسة اللغة كتابة وقراءة دون إتقان للنطق، وهو ما ذكره تلميذه صالح مجدى عنه، بما يعنى أنه كان يعرف مهمته جيداً، فليس من مهامه أن ينغمس فى الحياة الباريسية، وليس من مهامه أن يتقن النطق بهذه اللغة، فمهمته الأولى أن ينقل علومهم، ويرد بضاعتنا إلينا.
ومنذ اليوم الأول بدأ رفاعة فى تعلم اللغة، برغم أنه لم يكن مبعوثا للتعليم، وإنما لإمامة المبعوثين، لكن روحه الوثابة انتهزت هذه الفرصة بكل ما أوتى من قوة، حتى أنه كان يوفر من مصروفه القليل ما يتعلم به الفرنسية بدروس إضافية ينفق عليها من ماله الخاص، حتى تم إيفاده مبعوثا رسميا بعد ذلك، ليبدأ فى الترجمة فور ما تمكن من اللغة، وما أن يفرغ من كتاب حتى يرسله إلى مصر متعجلا نهضتها، وغير صابر على انتهاء البعثة، حتى يبدأ فى تحقيق المنجز، فقد عرف هذا الشاب اليافع أنه منذور للنهضة، وأن على عاتقه مهمة ثقيلة، وهو جدير بها، فعكف على دراسة القوانين، وترجم كتاب «روح الشرائع» لمونتيسيكو، و«العقد الاجتماعى» لجان جاك روسو، ليعود رفاعة بعد خمس سنوات من العمل والكد وقد سبقته إنجازاته وذاع صيت ترجماته.
كانت أولى الوظائف التى تولاها رفاعة بعد عودته من باريس هى وظيفة مترجم بمدرسة الطب، وقد كان يشغل هذه الوظيفة قبله مترجمون من بلاد مختلفة، ثم عمل مترجما للعلوم الهندسية والعسكرية، وفى هذه الأثناء كان رفاعة يخطط لتحقيق حلمه بإقامة مدرسة الألسن، حتى افتتحها سنة 1839 وقال فى خطبة افتتاحها ما يخبرنا بما لا يترك للشك مساحة بغرضه النبيل وحسه الوطنى العالى، فقال: ولا يخفى أن أصل تصدينا لإنشاء هذه المدرسة هو تقليل التعرب عن الوطن، وحب إيصال النفع إلى الوطن الذى هو من الإيمان، واستمرت هذه المدرسة فى القيام بدورها التنويرى على أكمل وجه حتى عصر عباس الأول، بعد أن قام برسم سياساتها ووضع مناهجها التى كفلت لطلابها أن يكونوا على مستوى عال من الإتقان، ولم ينس وهو الأزهرى المسلم أن ينشئ بهذه المدرسة قسما للفقه لكى يتعلم من يترجمون دينهم وألا ينسوا هويتهم، كما أنشأ قسا للغة العربية لتكون معرفتها معينا على الترجمة الصحيحة، وتدعيما للهوية العربية الإسلامية، وأثناء إدارته لهذه المدرسة أنشأ أول صحيفة عربية مصرية باسم «أخبار الديار المصرية»، كما أشرف على جريدة «الوقائع المصرية» الناطقة بلسان حال الحكومة المصرية.
لم يستمر حلم النهضة بشكله الوردى لرفاعة على طول الخط، فما أن مات إبراهيم بن محمد على حتى تولى عباس الأمر، فأعاد رفاعة نشر كتابه «تخليص الأبريز» الذى يصف فيه الثورة الفرنسية، ويترجم أفكارها الداعية إلى التمرد على الطغاة، والثورة فى وجه الظلاميين، والذى ترجم فيه دستور فرنسا متعاطفا مع ثورة الفرنسيين، وهو على ما يبدو ما أثار استياء الخديو عباس، فأمر بنفيه إلى السودان، وانتقم من رفاعة فى شخص مدرسة الألسن التى جعلها جامعة، فألغى قسم الفقه، وفصل عددا كبيرا من طلابها، ثم نقل مقرها، ثم ألغاها كلية، ووزع طلابها المتبقين على المدرسة التجهيزية، ثم ألغى المدرسة التجهيزية أيضا، وهو ما يؤكد أنه كان ينتقم من رفاعة واستنارته عن طريق محو آثاره وتشتيت طلابه، لكن رفاعة لم يستسلم لأحزان المنفى، واستمر فى ترجمته للكتب والروايات، فترجم رواية مغامرة تلماك، وقدم للأدب العربى أول عمل فنى يستوحى الأساطير اليونانية، وعانى رفاعة كثيراً فى منفاه، لكنه صبر واحتسب حتى تولى سعيد باشا الحكم خلفا لعباس، ففك قيود المنفيين إلى السودان، وأرجع رفاعة إلى سابق عهده، ثم ولاه وكالة المدرسة الحربية، مع رئيسها سليمان باشا الفرنساوى، لكن رفاعة لم يهدأ وهو الحالم بالتعليم والترجمة، حتى نجح فى إنشاء مدرسة جديدة بالقلعة.
فى أى لحظة من اللحظات لم ينس هذا الأزهرى المعمم هويته الإسلامية، فبعد أن سد حاجة مصر من ترجمة العلوم والآداب التى هجرها سابقوه تبنى مشروعا لإحياء الفكر العربى الإسلامى على نفقه الخديو سعيد، فأمر بطبع جملة كتب قيمة من أعمدة كتب الفقه والتفاسير والأدب، واستمر هذا المكافح المجاهد فى عمله إلى ما يقرب من أربعين عاماً حتى أصدر من الكتب والتراجم ما يقرب من ألفى كتاب، فى حين أن تركيا وهى التى كانت عاصمة الخلافة لم تصدر فى قرن كامل سوى أربعين كتابا، ليبدد بهذا العلم الوافر وهذا الحراك الثقافى اللافت خرافات عاشت فى المجتمع المصرى وتوغلت، حتى أنه كان يستاء كثيراً من أن بعض العامة يعتقدون أن أسلافنا الذين بنوا الآثار الشاهقة كانوا أطول منا وأضخم، معللاً ذلك بالقول إنهم كانو يعانون من «قصور الأذهان عن مقدار ما يحتاج إليه ذلك من علم الهندسة»، وهو ما لم يعد له مكان بعد ثورة الطهطاوى التنويرية العلمية التى وصلت ما انقطع من حضارة الإسلام والمسلمين.
ولم تكن ثورة رفاعة مقصورة على العلم والتعليم فقط، وإنما تعدت ذلك لتتحول إلى ثورة اجتماعية كبيرة، فيعتبر رفاعة أول داعية لتعليم المرأة فى مصر، بل فى الشرق كله، وبذل رفاعة جهودا مضنية من أجل تعليم البنات، لتصبح البنت المصرية كسابقتها من فضليات المسلمات اللاتى كن يعلّمن الرجال والأئمة، ولا أدل على ذلك من أن الإمام الشافعى كان يتلقى العلم على يد السيدة نفسية، ويحضر جلساتها العامرة بالفقه والحديث، وفى الحقيقة لم يكن حرمان البنات من التعليم بوازع دينى، وإنما كان بدافع اجتماعى يحتقر المرأة التى كرمها الإسلام، واتهم من يدعون تحريم تعليم البنات بأن عقليته جاهلية، وذلك لأن بعض الصحابيات كن متعلمات كما هو ثابت فى الأثر، وفى الحقيقة فإن احترام رفاعة للمرأة تعدى فكرة تعليمها، فقد نبذ تعدد الزوجات ودعا إلى تقييده، وقيد نفسه بتعهد مكتوب إلى زوجته يقر لها فيه بعدم أحقيته الزواج من أخرى، أو اقتناء ملكة يمين، وإلا كانت «طالقا بالثلاثة».
وهكذا سار رفاعة مجدداً رافعاً قيم الإسلام السمحة، متبعاً ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح «الفقه التطبيقى»، فنعم لم يترك رفاعة كتباً كثيرة فى الفقه، ولكن أخلاقه وأعماله كانت دستوراً فقهيا نابعا من إزهرى، وعى قيم دينه، وعمل على إعلائها، ولا نبالغ إذا قلنا إن الدور التنويرى الذى قام به رفاعة يكاد يوازى الدور التنويرى الذى وقع أثناء الخلافة العباسية التى احتفت بالترجمة، وخصصت لها أفرادا وجماعات ودعمتها، فكان لها أكبر الأثر فى أن تكون تلك الدولة من أعظم الدول الإسلامية تأثيراً ونفعاً وتحضراً، وفى ترجمة رفاعة للدساتير الفرنسية والعثمانية وضبط هذه القوانين والدساتير بالمصطلحات الإسلامية لتتوافق مع هويتنا وتتناسب مع أخلاقنا تشابه كبير مع ما قام به الصحابى الجليل عمر بن الخطاب، حينما نظم الدولة الإسلامية وفق ما عرفه من تنظيم الدواوين الفارسية، فقد كانت دماء العروبة والإسلام تجددت قديما بالفتوحات، وما إن انحصرت الفتوحات حتى نقصت هذه البلاد وانكمش الحلم بالتجديد والتطوير، فها هى الأندلس تنسلخ من الحواضر العربية الإسلامية، وها هى تركيا تتغرب عن لغة الإسلام، وها هى بلاد شرق آسيا تعود تدريجيا إلى لغاتها، وها هى الفتوحات العربية تختفى من الخرائط ويبدأ زمان الاحتلال، فما السبيل إذن لتجدد الحضارات، وضخ دماء جديدة فى أوصال الشعوب والبلدان؟.. وحده رفاعة أيقن أنه لابد لهذه الأمة من أن تجدد شبابها باستقدام معارف الأمم الأخرى بالترجمة والأسفار بعد أن حرمها التخلف والجمود والانكماش من أن تنتفع بما يتسرب إليها من حضارات الأمم الأخرى عن طريق تطعيم ديار الإسلام بعلوم الحضارات الأخرى، وقد رأينا كيف ازدهرت علوم الفقه والحديث واللغة على أيدى مسلمين أعاجم وأندلسيين ومغاربة ومصريين. وبهذا الدور الذى لعبه رفاعة ضمنت الحضارة الإسلامية أن تتجدد كل يوم بمعارف جديدة، ولمعرفة كم هو مؤثر ذلك الدور الذى لعبه رفاعة علينا أن نقارن بين وضع مصر والعرب قبل رفاعة وبعده، ثم ما علينا بعد ذلك إلا أن نتخيل ما هو الحال إذا ما هل علينا الاحتلال الإنجليزى بجموده وجبروته ونحن خاوون منسحقون لا هوية تجمعنا ولا فقه ولا علم، ألم يكن من الممكن أن تذوب هويتنا العربية الإسلامية فى هوية هذا المحتل، وأن تتغير لغتنا مثلما تغيرت لغة الشعوب الأخرى، وأن ننسحق أمامه ونصبح تابعين له كما انسحقت شعوب أفريقيا وبعض شعوب المغرب العربى أمام محتليها؟