هو مثل الشعلة التى أينما حلت أنارت ما حولها، يحلم بالعدالة المطلقة والسلام الحقيقى والعلم الخالص النافع، يرق قلبه للجائعين الضعفاء المساكين المرضى، لا يرى فى العالم شرا بقدر ما يراه فى ظلم الإنسان لبنى جنسه، مفكر من جبابرة الفكر الإنسانى، وفقيه وعالم وباحث صادق، عاش حياته ليتعلم ويعرف فأضاءت معرفته تاريخ الإنسانية، يقدس رابطة الدين بين المسلمين فى أقاصى البلاد وأدانيها، يحترم الأعراف والتقاليد والقوميات الخاصة، يؤمن بحرية الإنسان وقدرته على التحليق إلى آفاق الخيال، ولا يرى فرقا بين الخيال والواقع إلا بمقدار الإرادة الإنسانية وقدرتها على الصمود والتطور، إن ضعفت الإرادة بعد الفرق بين المتخيل والواقع، وإن قويت الإرادة اقترب الخيال من الواقع، هو أيضا المناضل الصامد الذى لا يلين أمام مدافع العدو سواء الحربية أو الفكرية، جندى شجاع لا يخاف من نار ولا يتهيب من الحوار، هو الرحالة الذى عرف الشعوب ووعى ثقافاتهم فصار جامعة دول متسامحة لا ترى فضلاً لعربى على أعجمى إلا بالتقوى، هو ذلك الأفغانى الذى أتى من بلاد سحر الشرق، فطاب له فى مصر المقام فأحبها وقدسها وعمل من أجل تطويرها وتنميتها فكرياً وروحياً وأدبياً ونهضوياً فصار أحد أكبر أعلامها وأهم رموزها وصائغ نهضتها وصانع خطتها التى شكلت هوية مصر الحديثة، فكتب له الله من التلاميذ المخلصين من خلد ذكره ونفع الخلق بفكره.
عنه يقول العلامة المحقق أحمد حسن الباقورى: «لا ريب أن الله تعالى مسخر لجمال الدين الأفغانى ولكل ذى مذهب صالح صادق من يكون لسان صدق فى الدفاع والإقناع فإذا جمال الدين ملء الأسماع ومشتهى الأبصار ثم إنه بعد أن ضمه القبر أعلى قدرا وأرفع ذكرا وأجل جلالا وأعظم هيبة مما كان بين تلاميذه ومريديه والإمام جمال الدين من أؤلئك الزعماء الفادرين بالفضل بين الناس تزيدهم الأيام فى موتهم وفى تقادمهم جدة وحاجة المجتمع إليه لا يشتد هتافها به ولا تمنيها له من حيث هو أعلم العلماء ولا أفقه المتقين وإن كان هو أعلم العلماء وأفقه المتقين ولكن لأنه كان رجلا منطلق الفكر بين طبيعة الحياة وحقيقة الدين وهو مع ذلك يحب أن يجمع بقدر ما يكره أن يفرق ويحب أن يتسامح بقدر ما يكره أن يتعصب وكلما حاولت أن أتخيل وجه رسول الله وجدت أول الطريق إلى هذا الخيال الجميل فى وجه السيد جمال الدين فى إشارة منه إلى نسبة الشريف.
عاصر جمال الدين الأفغانى (1839 – 1897م). وهو المولود بعاصمة افغانستان «كابول» تطور مصر وتقدمها الفكرى على يد الإمام حسن العطار وتلميذه رفاعه الطهطاوى، فرأى فيها ملكات وخصائص لم تكن متوفرة فى غيرها، وبعد أن كان ينوى أن يمر سريعا على القاهرة طاب له المقام فيها وتجسد حلمه بها فهدأت روحه التى كانت لا تطيق الركود ولا تصبر على القعود حالما بأن يجمع العالم الإسلامى على كلمة واحدة يكون فيها المسلم أخا المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، يشاركه حلمه وأمله وطعامه ورحمته، فيعم السلام الروحى على الجميع وتنعم بلاد الإسلام بثرواتها المتدفقة بدلاً من أن ينعم بها محتل غاصب أو حاكم غاشم أو جاهل مستبد مبدد.
يرتقى نسب الإمام جمال الدين الأفغانى إلى بيت النبوة الشريف، فهو حفيد الإمام على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنه، ويبدو أنه قد ورث من آل بيت رسولنا الكريم شجاعة الرأى ونبل المقصد وقوة الحجة ومحبة العلم فجمع حوله كل نفس كريمة وكل عقل متوقد وكل قلب لاهث يهفو للاطمئنان ويبحث عن الحقيقة والأمن الروحى والوطنى والعالمى، حالمين بجمع روافد العالم الإسلامى فى مصب واحد لتتضاعف قوته، فى مواجهة الخطر الأوروبى ويصلح من نفسه سياسياً واجتماعياً ويستيقظ من سباته العميق.
رأى الأفغانى بعينه فى بلاد «أفغانستان» ما يفعله التشتت والتفرق بين الإخوة من اضمحلال وفساد وخراب على البلاد، ورأى فى الهند أن الاستعمار يعمل على تفتيت الأمم وإضعاف إيمانها متربصا بكل بلاد العالم، ورأى كيف أن العنصرية أكلت الغرب حتى ظن أنه أفضل من شعوب العالم فأطلق صرخته الإصلاحية المستنيرة ليستنهض المسلمين من غفوتهم، لتترك الأمة الضعف وتجنح إلى الاتحاد وتنبذ الجهل وتتمسك بقيمها الخلقية والروحية التى تدعو إليها الأديان، مؤكداً أن ضعف الدول الإسلامية ليس ناتجا عن عيب فى الدين نفسه وإنما لابتعاد المسلمين عن إتقان العلوم وتنقية الروح من الخمول ونزع الرتابة والتقليد عن أفكارنا الدينية التى تدعى أن الخير كل الخير فى النقل والشر كل الشر فى العقل، داعياً إلى تفجير الإمكانيات العقلية لدى الإنسان المسلم ليعود إلى سيرته الأولى وقت أن كان سيداً للعالم وصانعاً لحضارته وتقدمه.
ولئن كانت دعوة الأفغانى هذه قد لاقت رواجاً كبيراً بمصر ووجدت لها أتباعا ومريدين وتلامذة فهذا لأن من سبقوه من المصريين كانوا قد مهدوا المجتمع لمثل هذه الدعوات، وعلى رأسهم الإمام حسن العطار ورفاعه رافع الطهطاوى، ولذلك أصبحت مصر تربة خصبة لمثل هذه الأفكار التحريرية، ولم يكن الأفغانى يرى أى مانع دون وصول الأمة الإسلامية إلى ما تشتهى من تقدم وسمو إلا مكوث الحكام الظلمة على جسد هذه الأمة، فقد كان يرى أن حكام المسلمين وقتها غير جديرين بمناصبهم، ولا يهتمون إلا بإشباع شهواتهم الحسية، ولذلك أصبحوا فريسة سهلة لكل آكل.
ولعل روح الأفغانى الذى كان جنديا فى ميادين القتال ظلت على عهدها من شجاعة وتوثب وهو فى ميادين الفكر، وأهلته تلك الروح لخوض غمار المناطق الفكرية الوعرة والتصدى لما لا قبل لأحد به، وكذلك فإن معرفته الواسعة بالعلوم والرياضيات وشغفه بالمعرفة حصنه أمام الغزوات الفكرية المتتالية ومرس عقله ليصبح حجة من حجج الإسلام فى الدفاع عن الهوية الإسلامية المتحضرة الحديثة، ولعل شهرة الأفغانى وصيته الذائع هى التى جعلت مصر تستقبله أحسن استقبال حينما أتى إليها زائراً عام 1871 فأقام بها ثمانى سنوات قام فيها بإلقاء المحاضرات، وكون خلالها مجموعة تلاميذ، لعبوا دورا هاما فى مستقبل مصر السياسى. منهم الإمام محمد عبده وسعد زغلول، الذى أصبح فيما بعد بطل مصر الوطنى وزعيم ثورة 1919، ورئيس الوزراء. ومن تلاميذه أيضاً، محمود سامى البارودى، وعبدالسلام المويلحى، وإبراهيم المويلحى، وإبراهيم اللقانى، وعلى مظهر وسليم النقاش وأديب إسحق وأحمد لطفى السيد، فقد جمع الأفغانى كل المخلصين على اختلاف مشاربهم واختلافاتهم، فصاروا نواة لصحوة وطنية كبيرة بعد أن تسلحوا بمقومات هويتهم العربية الإسلامية المصرية، فقد كان الأفغانى يدرس لتلاميذه فى منزله مفهومه للإسلام الصحيح، وإلى جانب دراسة الإسلام كدين وفقه، كان يشرح لتلاميذه أصول الشريعة والتصوف والفلسفة الإسلامية، وهى العلوم التى كانت شبه مجهولة فى مصر آنذاك، وللحق فإن هؤلاء التلاميذ النجباء ما أن شعروا بعلمهم يفيض حتى أنشأوا الجرائد مثل جريدة «مصر» وجريدة التجارة «التجارة» اللتين كان الأفغانى يكتب لهما تشجيعاً لتلامذته فحققت رواجاً كبيراً وقتها، وأخذ أيضاً يدعم روح الثورة على الأوضاع الاستبدادية القائمة ومقاومة روح الخنوع أمام قوات الاحتلال والتى كان يرعاها الخديو توفيق فتم القبض على الأفغانى فى العام 1871م ونفيه إلى الهند بإيعاز من الإنجليز.
وفى الهند منع من الاختلاط بالناس وكان تحت الرقابة المباشرة من الإنجليز، عندما قامت الثورة العرابية، نقلته حكومة الهند إلى كلكتا حتى انتهت الثورة العرابية باحتلال انجلترا لمصر عام 1882م، كما لو كان الإنجليز يعلمون أنه سيكدر عليهم احتلالهم لمصر وسيدعم الثورة ضدهم، ولما استقام له الأمر فى مصر سمح له بالتنقل فى بلاد العالم عدا بلاد الشرق، فسافر إلى لندن عام 1883م. ومنها إلى باريس، ليلتحق به تلميذه محمد عبده من منفاه فى بيروت عام 1884م.
فى باريس أخذ المعلم الكبير جمال الدين يدعم روح اليقظة والتفاؤل عند تلميذه وصفيه محمد عبده الذى كان يعانى من موجات تشاؤمية متزايدة بفعل ما رآه من خذلان فى الثورة العرابية، لكن أستاذه وأباه الروحى خفف عليه مصيبته فى وطنه، واستنهض روحه مرة أخرى ليحررا جريدة «العروة الوثقى» التى تستلهم قول الله تعالى: ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الأمور.
فى هذه الجريدة أخذ الثنائى «الأفغانى وعبده» يكشفان عن المخططات الاستعمارية المقيتة، ويبثان الأمل فى النفوس، متبنين منهج التمسك بالأصول والقيم النبيلة، والدفاع عن أهل الشرق وإعلامهم بما يدور من حوادث سياسية فى الغرب وكان يرسل جريدته سراً إلى البلاد العربية والإسلامية حتى يستنهضهم ويحثهم على الجهاد والدفاع عن أوطانهم وعقيدتهم، وهو الخطر الذى استشعره المحتلون وأعوانهم سريعاً فضيقوا عليها حتى اختفت.
ومن أوربا إلى إيران سافر الأفغانى ليعمل مستشاراً للشاه ناصر الدين، لكن الأفغانى الذى لم يتعود على مجالسة الملوك والسلاطين اختلف مع الشاه مما جعله ينقلب عليه سريعاً بعد عام واحد، فطرده شر طردة من إيران، وحملوه على الثلج إلى دار الحكومة ثم حملوه وهو مريض على دابة مسلسلاً. وساقوه إلى خانقين» ومنها سافر إلى البصرة يعانى ألم المرض الذى اشتد عليه من هذا الحادث، وكاد يودى به، وهو ما جعل الأفغانى ينقلب على الشاه هو الآخر فأخذ يكتب إلى علماء الدين ليهيجهم على الشاه، واصفاً إياه بأقبح الصفات ويبين ضرره على الأمة ويثير عاطفتهم الدينية ليثوروا عليه ومستغلا ما يظهر من أفعال سيئة من الشاه ليقبح وجهه عند العلماء والعامة، فساهم فى إخراج مجلة شهرية بعنوان «ضياء الخافقين» فضح فيها حكومة الشاه، وسوء إدارته للبلاد وتفشى الرشوة وتعذيب المواطنين.
واستجابة لدعوة السلطان عبدالحميد سافر الأفغانى إلى تركيا بشرط أن يصلح السلطان من سياسته فيها، ولما عرض السلطان عليه منصب شيخ الإسلام، رفض، إلا إذا عدّل النظام من أساسه أولا، إذ كان يرى أن عبدالحميد «ذكى واسع الاطلاع واسع الحيلة، لكنه جبان يفسد عليه جبنه ذكاءه ومعرفته» ولما وعى السلطان بخطورة الإمام الأفغانى عليه وعدم رضاه عنه إلا إذا أصلح البلاد وقام بسلطاته الروحية كخليفة للمسلمين على أكمل وجه فرض عليه الإقامة الجبرية فى القصر، ويقال إنه خاف منه حينما قتل الشاه ناصر الدين على يد أحد تلامذة الأفغانى فأوعز إلى طبيب الأسنان الملكى أن يدس له السم فى حشو أسنانه فمات العالم الجليل سنة 1897.
ومن يتأمل منهج الأفغانى فى بث الوحدة بين البلاد الإسلامية يجد أننا فى أمس الحاجة الآن إلى مثل هذا الرجل فقد قال عنه العلامة الكبير شيخ الأزهر الجليل مصطفى عبدالرازق أنه حوى الشرق كله ومازال تأثيره قائما حتى الآن فى مصر وإيران وتركيا» فالأفغانى الذى كان أول من نادى بالوحدة بين المسلمين وإنشاء جامعة للدول الإسلامية كان شديد الكراهية لروح التعصب والتفريق بين أبناء البلد الواحد، وكان كما قيل عنه أكثر حكماء المسلمين وأئمتهم توسعاً فى معنى المساواة وأكثرهم ميلا للعمل به، وقد كان الدين عنده محفزاً على إكساب البشر رسالة أنه أشرف المخلوقات وأنه ملك هذه الأرض، وكان يجزم بأن «لا يوجد فى الأديان الثلاثة «الإسلام والمسيحية واليهوية» ما يخالف المجموع البشرى بل على العكس تحضه على أن يعمل الخير المطلق مع أخيه وقريبه وتحظر عليه عمل الشر مع أى من كان، بل يفسر الأفغانى ما نراه من احتقان وصراع دينى بأنه من عمل تجار الدين فيقول: «وأما اختلاف أهل الأديان فليس هو من تعاليمها ولا أثر له فى كتبها وإنما من صنع بعض رؤساء أولئك الأديان الذين يتاجرون بالدين ويشترون بآياته ثمنا قليلا» بل يتوقع أن يحاربه أولئك الذين يتخذون دين الله «حانوتا» أو إن شئت قل «مشروعاً» كما يسمونه الآن قائلاً: «علمت أن أى رجل يجسر على مقاومة التفرقة ونبذ الاختلاف وإنارة أفكار الخلق بلزوم الائتلاف رجوعاً إلى أصول الدين الحقة فذلك الرجل يكون عندهم قاطع أرزاق المتاجرين فى الدين وهو فى عرفهم الكافر الجاحد المارق المخردق المهرتق المفرق إلخ إلخ.
وبرغم أن الأفغانى كان يرى أن «الرابطة الملية» هى أقوى الروابط بين المسلمين وأن الوحدة المنشودة لابد أن تكون وحدة إسلامية، لكنه مع ذلك قد آمن بالروابط القومية بشكل كبير، وارتفع برابطة اللغة والنسب والجنس بشكل كبير، فقد هاجم المستشرق أرنست رينان الأستاذ بجامعة السوربون الذى قال إننا نخطئ حينما نقول الحضارة العربية لأن صناعها ليسوا عرباً وأن العرب أبعد الناس عن الحرية الفكرية والفلسفة والإسلام لا يشجع عليها فقال له إن العرب وإن كانوا يعيشون فى الجاهلية قبل الإسلام فهم الذين بعثوا الحياة فى البلاد صاحبة الحضارة التى فتحوها بعد أن كانت حضارتهم فى طريقها إلى الذبول فتقدمت علومهم ونمت مواردهم، وإنه لولا الحرية التى أتاحها الإسلام للمسلمين لما رأينا حركة الترجمة تزدهر وتنمو ولما صارت حضارة العرب من أقوى وأجمل الحضارات، وهو الرد الذى أعيا المستشرق المغالط وأجبره على احترامه.
ومثلما تقلب الأفغانى بين الوحدة الإسلامية إلى الوحدة العربية تقلب أيضاً من الإيمان بالرأسمالية إلى الإيمان بالاشتراكية، مؤكداً فى نهاية حياته أن الاشتراكية هى الأقرب لتعاليم الإسلام لأنها تنتصر للفقراء وتحرص على المساواة، وبعد أن كان يقول إن الاشتراكية: «أفكار المصابين بالماليخوليا» وأنها «تمحو جميع المحاسن وضروب الزينة وفنون الجمال العملى» نجده فى آخر حياته يقول: «إن غاية السلطة هى العدل المطلق» بل نجده يقول إن الأغنياء سلاسل وأغلال فى أعناق المسلمين، وأن «الاشتراكية هى التى ستؤدى حقا مهضوما لأكثرية الشعب العامل» وهو التحول الذى يؤكد أن ذمه للاشتراكية لم يكن إلا اندفاعاً حماسياً نتيجة اختلافه مع الاشتراكية الأوروبية، وما عودته إليها إلى عودة الراجع إلى الحق العالم بأن الفقراء هم صلب الحياة ومرآة الشعوب، كذلك ليقينه أن الاشتراكية هى التى تتوافق مع تعاليم الإسلام الحنيف الذى يأمر بمراعاة الفقير والضعيف.
أما لو أردت أن تعرف السبيل الذى ارتضاه الأفغانى لنفسه والمرشد الذى سار عليه نهجه فإنى سأجيبك بلا تردد «هو العقل» ولتقرأ معى قوله التالى: «إن الإنسان من أكبر أسرار هذا الكون ولسوف يصل بالعلم وبإطلاق سراح العقل إلى تصديق تصوراته فيرى ما كان يراه مستحيلاً وقد سار ممكناً» أى أنه يجعل من العقل سبيلاً لتحقيق المعجزات متحدياً أولئك الذين أغلقوا باب الاجتهاد ورأوا أن من «حفظ المتون فقد حاز الفنون» وأن كل شىء خير فى النقل وكل شىء شر فى العقل».
وقف جمال الدين الأفغانى بحسب تعبير المفكر الإسلامى محمد عمارة «كالإعصار الكاسح والبحر الهادر يمجد العقل فى أفكاره ومناظراته ومناقشاته وفى تفسيراته وتطبيقاته فجعل الحكم للعقل والعلم، وينسب له أنه كان أول من دعا إلى التفريق بين آيات القرآن والحقائق العلمية قائلاً إن «القرآن يجب أن يجل عن مخالفته للعلم الحقيقى خصوصاً فى الكليات فإذا لم نر فى القرآن ما يوافق صريح العلم والكليات اكتفينا بما جاء فيه من الإشارة ورجعنا إلى التأويل، وبفضل إيمانه بالعقل واستماتته فى الدفاع عن الإسلام قارع المشككين فيه الحجة بالحجة والبرهان بالرهان، ولما ظهرت نظرية دارون للوجود وتشكك العالم الإسلامى بسببها فى معتقداته لم يجد المسلمون غير الأفغانى ليرد على دعاة هذه النظرية الذين نقلوا مفاهيمها بشكل خاطئ، وقال إن هذه النظرية متناقضة فى متنها فالكون كله «منظم» بإحكام وهى تدعى أن سبب خلق الكون «مصادفة» فكيف تنتج الفوضى نظاماً؟ وهو الرأى الذى أسهم فى طمأنة الناس وتهدئتهم، كما أسهم فى نقل مبادئ الدارونية الصحيحة التى لا تنكر خالق النسمة الطيبة أو الروح، فأدى ذلك إلى تسامح الأفغانى مع النظرية التى لا تصطدم بالدين، وآمن بفكرة الانتخاب الطبيعى التى هى أساس الحياة.
وكان طبيعياً أن يجد عالم جسور ومناضل كبير بهذا الشكل اعتراضات كبيرة وكثيرة على أفكاره وآرائه التى زلزلت المجتمع وأرقت مضاجع الطغاة، فصاروا يكفرونه ويحاربونه ويشككون فيه، فكفرته مشيخة الإسلام فى تركيا وكفره شيوخ الخديو توفيق مثل الشيخ عليش وقال إنه رئيس جمعية سرية من الشبان ذوى الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا. لكن الأفغانى الذى كان يعرف أنه مجدد شباب الأمة الإسلامية لم يكن يكترث بهذا اللغو، ويبدو أنه كان يعرف أيضاً أنه سيكون مثار جدل كبير حتى بعد موته، فقد أملى على تلميذه محمد المخزومى كتابه الأخير «الخاطرات» محذراً تلميذه من بطش السلطان وموصياً إياه بإخفائه عن الأعين وقال له فى نهايته: «إذا سلمت من خطر الطاغية وطواغيته فستصادف من أهل الجمود عنتا وتخرصاً وقلبا للحقائق فلا تبال بهم فما خلا الكون منهم ليخلو زمنك منهم وما نجا منهم مخلص لتنجو أنت.