رحم الله شهداءنا من الجنود والضباط الذين راحوا ضحية الغدر وسوء الإدارة والغفلة وقلة الحيلة. ولعنة الله علي القتلة وسافكي الدماء باسم الجهاد.. والدين منهم براء.
نعم.. رحم الله شهداء الوطن والواجب, نعم.. هم جميعا شهداء في رحاب العلي القدير. لكن الأمر لا يجب أن يمر مرور الكرام. فالهجوم خطير ودلالاته السلبية أكثر من أن تعد أو تحصي. فالمحاسبة مطلوبة ورد الفعل لابد أن يكون مدروسا وبعيدا عن الأفعال الاستعراضية الوقتية التي لا تفيد أحدا. والمسألة هنا ليست مجرد القبض علي أو قتل عنصر أو أكثر من القتلة والارهابيين أيا كانت جنسيتهم او فكرهم الخبيث, بل هي العمل الدءوب والمتتابع لاجتثاث هؤلاء من كل شبر في سيناء.
المطلوب الآن ليس مسكنات, بل عملية جراحية تعالج الخطر من جذوره. خطر المنظمات الجهادية والعنيفة التي لا تراعي في دم المسلم إلا ولا ذمة ليس جديدا, ومصر تحديدا تحتل موقعا مهما في استراتيجية الجماعات الجهادية العابرة للحدود, فهي الجائزة الكبري لهم. وتصريحات أيمن الظواهري متناثرة في كل المواقع وجميعها تدعو إلي الإجهاز علي مصر وعلي أمنها باسم الدين والجهاد والولاء والبراء. وكثيرا ما تواترت المعلومات والحقائق حول تعاظم الخطر في وسط سيناء وفي أجزاء من أطرافها شمالا وجنوبا مستغلين في ذلك انشغال المصريين جميعا بالثورة وشئونها وصراعاتها. ولم تكن التحذيرات والمعلومات الآتية من إسرائيل هي المصدر الوحيد لهذه المخاطر, بل جاءت أيضا من مصادر أوربية وأمريكية ومصرية والكثير منها موثق ولا مجال لتكذيبه.
كنا نتصور أن وجود هذه المعلومات مع رصد للكثير من التحركات لعناصر مشبوهة وأخري أجنبية علي أرض سيناء كفيل بأن يعيد بناء استراتيجية مواجهة حازمة لهذه المجموعات الإرهابية, وتؤكد أولوية الأمن القومي المصري علي ما عداه من اعتبارات سخيفة تتعلق بصراعات السلطة والاختصاصات الوهمية والأدوار الطفولية التي تسعد البعض وبدفع ثمنها الوطن ككل. وكنا نتصور أن12 محاولة لقصف وتفجير خط أنابيب الغاز المصري المتجه إلي الأردن بعد وقف التصدير لإسرائيل كفيل بأن يشكل قناعة بأن الوضع الأمني في سيناء لا يمكن أن يستمر علي حاله دون تحركات نشطة أمنيا وتنمويا, وان ترصد لها كل الاعتمادات والموارد المطلوبة. وكنا نظن أيضا أن المحاولات التي لم تتوقف للهجوم علي الأكمنة الأمنية في قطاعات وأماكن متعددة في سيناء تؤكد معني الخطر وتعاظمة لحظة بعد أخري. غير أن ظنونا وظنون المصريين الغيورين علي أمن وهيبة بلدهم خابت وذهبت أدراج الرياح.
إن سلوك اللامبالاة والتردد وتجنب المزايدات السياسية الداخلية يمثل آفة كبري. وهنا مربط الفرس. فالذين أدانوا الحادث من القوي السياسية قديمها وجديدها, تحدثوا وكأنهم في موقع المتفرج وليس المسئول عن ضياع هيبة الدولة. إن الصراحة تقتضي هنا إلقاء اللوم علي كل من تصرف من الناشطين السياسيين والأحزاب والمنظمات الشبابية قولا أو فعلا من أجل تثبيط همة الجيش المصري وشتم قياداته وتدمير سمعة وزارة الداخلية وحث الفئات المختلفة علي الاجتراء علي مؤسسات الدولة وقطع الطرق والاعتداء علي المباني العامة ومراكز الشرطة. هؤلاء جميعا مسئولون ومشاركون في جريمة رفح الدنيئة, حين أصروا علي أن ينحرفوا بالعملية السياسية والتحول الديموقراطي إلي عملية صبيانية دعائية من أجل الشهرة واكتساب النقاط, وأضاعوا من خلالها كل العناصر المرتبطة بالأمن القومي وهيبة البلد وحماية الحدود وردع العدوان ومواجهة مصادر التهديد سواء الناعمة أو الصلبة. والآن يعيدون الكرة مرة أخري عبر بيانات وتصريحات زاعقة من أجل مكاسب دعائية لا معني لها.
لقد أثبت الهجوم علي الجنود المصريين في رفح أن استراتيجيتنا الأمنية المتجهة نحو تهدئة الأمور, والخوف علي الموسم السياحي, وتجنب تبادل المعلومات مع الأطراف ذات الصلة بالوضع في سيناء وتجاهل التحذيرات الأمنية والتعامل البارد معها, هي استراتيجية خاطئة تماما وبحاجة إلي تغيير جذري. بداية من الدخول مباشرة في مفاوضات مع الجار الشمالي من اجل إجراء تعديلات جذرية علي منظومة الوجود العسكري المصري في شمال سيناء, وانتهاء بزيادة القوات المصرية ورفع كفاءة تسليحها وتدريبها بغض النظر عن أي عقبات حقيقية أو متصورة.
كما اثبت الهجوم أيضا أن غض الطرف عن أنفاق التهريب بين الأراضي المصرية وغزة لا يجب أن يستمر كما كان في السابق. فاعتبارات الأمن القومي لا تقل أهمية عن اعتبارات مساندة الفلسطينيين لكسر الحصار الظالم عليهم. بل الأمن القومي المصري له الاعتبار الأكبر بلا منازع, وفتح الحدود وتسهيل إجراءات الانتقال مع غزة لمجرد الدعاية السياسية والحزبية ولاعتبارات أيديولوجية محضة له نتائج خطيرة ستنال من أمن مصر طولا وعرضا.
لقد أظهر هجوم رفح أن قيادة بلد كبير بحجم مصر لا يستقيم مع النظر إلي التزامات الأمن القومي من زاوية إيديولوجية وحسب, أو من زاوية شخصية قصيرة النظر. فالأمر أكبر من الحساسيات الشخصية, وأكبر من الايديولوجيا. فالوطن هو الباقي. وعلي الذين لا يطيقون التزامات الدولة وشئونها خوفا من نقد عابر أو مزايدة سخيفة أو مكابرة دعائية علي حساب الوطن, أن يرجعوا مواقفهم وحسابتهم أعباءها.
وأخيرا تبقي كلمة; فمحاسبة الذات هي الأساس الذي يجب أن ننطلق منه كمصريين جميعا لمواجهة تداعيات الحادث الارهابي في رفح. وإلا بقينا نسكب الدمع, ويظل الجرح نازفا حتي الموت.