إذا كانت هناك كارثة يجب أن يحاكم عليها النظام السياسي السابق فهي إهمال سيناء باختزالها في منتجع لاستقبال الضيوف, وإذا كانت هناك كارثة يمكن أن يحاسب عليها النظام السياسي الحالي فهي السماح بسقوط سيناء في أيدي متطرفين من هنا أو عملاء من هناك.
وإذا كانت هناك كارثة سوف يدفع الشعب ـ كل الشعب ـ ثمنها فهي ضياع واستئصال ذلك الجزء الأهم من جغرافية مصر, في إطار مخطط التقسيم الذي تم الإعداد له في عواصم خارجية, وإذا كانت هناك كارثة حقيقية في تاريخ مصر الحديث فهي ذلك الصمت الشعبي الغريب علي ذلك الذي يحدث, وذلك التعامل الرسمي المهين مع تلك الأزمة التي أصبحت واقعا يجب أن نعترف به جميعا, وهو سقوط سيناء.
نعم.. سيناء الآن في قبضة البلطجة والإرهاب ولا تخضع- إلا ما ندر- لسلطة الدولة الرسمية, نعم هناك ما لا يزيد علي عشرة آلاف متطرف وبلطجي من مصر وخارجها يشكلون نواة لفصل هذا الجزء الغالي من وطننا, نعم هناك أسلحة متطورة في أيدي هؤلاء وأولئك من بينها مدافع وصواريخ مضادة للطائرات, نعم هناك شيوخ قبائل في سيناء يقدمون الدعم لهؤلاء المارقين, فهم في النهاية من أبنائهم وذويهم, نعم الموقف يزداد سوءا يوما بعد يوم في سيناء علي عكس ما يتم الإعلان عنه, فهناك متطرفون جدد يدخلون إليها بصفة يومية, وأسلحة حديثة يتم تهريبها بصفة شبه يومية, نعم هناك ضعف أمني في عامة البلاد, ناهيك عن التشرذم السياسي, والتوجس المجتمعي وهو ما يعزز من ضعف الدولة وتقسيمها ليس في سيناء فقط.
يجب أن تكون لدينا الشجاعة الأدبية التي تجعلنا نتوقف أمام ما يردده المراقبون الآن من أن النظام الحاكم يتهاون مع ما يجري في سيناء لاعتبارات أيديولوجية تجمعه بنسب ما مع المتمردين هناك, وبنسب أكبر مع حكام غزة, وهو اتهام كان من المهم التعامل معه بإجراءات واضحة وحاسمة علي أرض الواقع, وذلك لأن القضية الآن تتعلق بالأمن القومي لمصر, ولم يعد مقبولا ذلك التردد, فتارة يكون الحديث عن حسم عسكري دونما إنجاز حقيقي, وتارة عن مفاوضات مع المسلحين دونما شفافية ووضوح, وتارة عن تنمية ونهضة شاملة دون خطوات ملموسة, إلا أن فشل الاتجاهات الثلاثة يؤكد أنه لم تكن هناك خطة واضحة منذ البداية في التعامل مع الأزمة, وهو ما بدا مستمرا حتي الآن.
كما يجدر بنا أن نؤكد أن مصر الدولة والشعب إذا لم تكن قادرة علي حماية 64 ألف كيلو متر مربع هي مساحة سيناء فنحن لا نستحقها, وهي التي سالت فيها دماء طاهرة من قبل في حروب متعددة أسفرت في النهاية عن تحرير هذا الجزء الإستراتيجي بالغ الأهمية ليس علي المستوي المحلي أو الإقليمي فقط, وإنما العالمي أيضا, فهي ليست بوابة حدودنا الشمالية الشرقية فقط, وإنما هي ملتقي الأديان والرسالات, بل هي كنز الموارد الطبيعية الذي لا ينضب, والذي لم نكتشف منه إلا اليسير حتي الآن, وهذه الجغرافيا هي سر عبقرية سيناء علي مر العصور, فقد رصدت الدراسات وجود 16 خامة معدنية بسيناء, من بينها الذهب والفيروز والرخام والجرانيت والرمال البيضاء,والفوسفات والنحاس والزيركون والجارنت والروتايل والاسفين والمنجنيز.
وربما كان المتطرفون في سيناء من داخل مصر وخارجها لا يدركون قدر هذا الكنز الاستراتيجي, إلا أنهم استغلوا تلك الأوضاع التي تسببت فيها الدولة الرسمية سواء بإهمالها أهل هذه الأرض أو بإهمالها الأرض نفسها, فراحو ينشرون أفكارهم مستغلين حاجة البشر هناك, فتزايدت أعدادهم وأعداد هذه الجماعات أيضا من تكفير وهجرة ورايات سوداء, إلي سلفية جهادية وأنصار الجهاد, وحتي شوري المجاهدين والتوحيد والجهاد, وانتهاء بالقاعدة, وجميعها جماعات لم تسع يوما إلي الاندماج في الحياة العامة للدولة, ولن تسعي أيضا في ظل هدف واحد ومحدد وهو حكم البلاد بالطريقة التي تراها هي وليس بالطريقة التي يقررها الشعب لنفسه, فقد كفروا بكل الأنظمة وكفروها, وأباحوا دماء المدنيين والعسكريين علي السواء, وهي أمور كان يجب وأدها بالمواجهة وليس بالتردد.
وللأسف..
أصبح لهذه الجماعات أنصار سياسيون بالداخل يدعون إلي التحاور معها وقبول شروطها, وأصبحنا أيضا نكتشف بين الحين والآخر خلايا نائمة من أنصارهم في المحافظات المختلفة, وهي أمور إن تم التعامل معها بلا حسم فسوف تكون العواقب وخيمة علي المجتمع ككل, ولن تكون إمارة سيناء المزعومة آخر المطاف, ولذلك فإن الوضع يتطلب التعامل مع الأزمة من خلال عدة محاور أراها كالتالي:
أولا.. العمل بأسرع ما يمكن وبأقصي جهد علي تعديل الملحق الأمني في معاهدة السلام مع إسرائيل, خاصة ما يتعلق بالوجود العسكري في المنطقتين ب وج بما يكفل وجود قوات مسلحة كافية للتعامل مع الأحداث.
ثانيا.. التعامل بلا هوادة مع المسلحين هناك مهما تكن التكلفة خاصة في ظل الدعم الشعبي لذلك التوجه, حيث لن يكون مقبولا في المستقبل الاعتداء علي رجل أمن أو أي من عناصر قواتنا المسلحة, ويكون رد الفعل هو إقالة محافظ أو مدير أمن.
ثالثا.. البدء فورا في تنفيذ مشروع قومي لتنمية سيناء يتناسب مع الإمكانات الهائلة والمقومات الاستثنائية لهذه البقعة, وإعادة الاعتبار لأهلها الذين ظلوا في طي النسيان أربعة عقود, مع خطة توطين فاعلة.
إلا أنه يجب تأكيد أن التنمية في سيناء لا يمكن أن تتم بمعزل عن الوضع الاقتصادي في بر مصر ككل, بمعني أن النهضة في مصر يجب أن تكون شاملة وحقيقية بما يصب في النهاية في سيناء والنوبة والوادي الجديد والصعيد وغيرها من مناطق التوتر التي أصبحت هدفا لكل الحالمين بزعزعة استقرار مصر, وهو الأمر الذي يجب أن نسعي إليه جميعا, حكومة ومعارضة, سلطة رسمية ومنظمات مجتمع مدني, وذلك حتي نثبت للأجيال المقبلة أننا كنا علي مستوي المسئولية, بدلا من توريث العار والشنار, وحين ذلك لن نستحق سوي اللعنات التي سوف تطاردنا حتي إلي ما بعد الحياة الدنيا.
وتجدر الإشارة هنا..
إلي ما ذكرته صحيفة الإندبندنت البريطانية الشهر الماضي من أن شبه جزيرة سيناء غنية بالثروات المعدنية متسائلة: هل يؤدي سقوط نظام حسني مبارك إلي تغيير جذري في التعامل معها واستخراج الكنوز المدفونة فيها وتصبح الجزيرة المنسية في عهد مبارك الدجاجة التي تبيض ذهبا الآن؟, وذكرت الصحيفة: أن مزيجا من الأمن والقلق تسبب في تعقيد عملية التعدين في سيناء, إلا أنها أشارت أيضا إلي أن الأمر الذي يثير الشكوك هو إهمال النظام السابق هذه الثروات المدفونة, علي الرغم من أن المناهج الدراسية في مصر تؤكد وتتحدث عن أن منطقة سيناء غنية بالثروات المعدنية, كما أنه منذ القرن الثالث قبل الميلاد كان العمال الذين يعيشون في ظل الممالك القديمة يكتشفون المعادن الثمينة من الصخور البركانية التي تظهر علي ساحل البحر الأحمر.
كما تجدر الإشارة إلي ما ذكره موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق قائلا إن شرم الشيخ بدون سلام مع مصر هي الأهم من سلام مع مصر بدون شرم الشيخ وذلك في إشارة إلي قيمة هذه المدينة فقط, إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل أيضا الرصد الإسرائيلي الذي يؤكد أن تنظيم القاعدة وحده يسيطر علي 20% من مساحة سيناء, وأنها غدت خارج السيطرة الأمنية المصرية, كما لا نستطيع أن ننكر ان هناك يدا طولي لإسرائيل وأجهزة استخباراتها في سيناء, بل إن أصابع الاتهام تشير إليها في كل الكوارث والمصائب التي تتعاقب علي سيناء شمالها وجنوبها سواء كانت بفعل مصريين أو فلسطينيين أوغيرهم, مما يجعل ما يسمي التعاون الأمني بينها وبين مصر مثار شك وريبة طوال الوقت ويجعل من اعتمادنا علي أنفسنا أمرا لا مفر منه, خاصة في ظل الظروف الراهنة.
فمنذ تفجيرات طابا ونويبع في عام 2004 التي راح ضحيتها العشرات وتفجيرات شرم الشيخ في 2005, وتفجيرات دهب في 2006, ومرورا بالتفجيرات المتتالية لخط الغاز والتي بلغت 15 تفجيرا, والهجمات علي كمين منطقة الريسة التي بلغ عددها 28 هجوما مسلحا, وحرق قسم شرطة ثان العريش, ثم قصفه بأسلحة متطورة في عام 2011, ثم الهجوم الغادر علي موقع عسكري ذهب ضحيته16 جنديا مصريا, كل هذه الأحداث وغيرها كانت كفيلة بإعادة النظر في مثل ذلك التعاون الأمني ليس ذلك فقط, بل كان يتحتم علينا وضع منظومة أمنية وعسكرية مختلفة للتعامل مع الأوضاع, إلا أن سلطة ما بعد ثورة 25 يناير قد أخفقت تماما مثل سابقتها, وهو الأمر الذي يضع الجميع في قفص الاتهام باتهامات أقلها التراخي والسلبية وعدم أداء الواجب الوطني, بل يمكن أن تتطور هذه الاتهامات حال إحالتها لمحاكمات عسكرية.
فالمد الإرهابي في سيناء يقابله مد متطرف داخل مصر ككل, والإفراج عن إرهابيين بقرارات فوقية يقابله امتعاض في الشارع وأزمات متفاقمة لرجال الأمن, والتفاوض الرسمي مع الإرهابيين يقابله مزيد من التطرف لدي الفصائل الأخري, والتراخي في المواجهة مع هؤلاء وأولئك يقابله مزيد من الضحايا في صفوف حراس الوطن, والإخفاق في الكشف عن ملابسات كل واقعة تلو الأخري يقابله فقدان ثقة في الداخل والخارج علي السواء, وأود أن أشير هنا إلي حوار دار في مكتبي مع أحد ممثلي البعثات الأوروبية في مصر حينما فاجأني بسؤال هو: هل تعتقد أن مصر تستطيع السيطرة علي الوضع في سيناء؟, فأجبته قائلا: إذا أرادت.. فقال: أريد إجابة أكثر وضوحا؟, قلت: إن مصر مكبلة باتفاقية مع إسرائيل تمنعها من نشر مزيد من القوات في سيناء, وفي الوقت نفسه تعمل علي عدم استعداء القبائل هناك بمزيد من العمليات العسكرية, إلا أنها بالفعل تستطيع مواجهة الموقف هناك برغم العراقيل العديدة, فكانت إجابته قاطعة: أشك!.
نحن إذن..
أمام أزمة يري العالم الخارجي أنها خرجت عن السيطرة, وإلا لما كان العرض الأمريكي بالمساعدة العسكرية في هذا الشأن, وهي أيضا أزمة يري رجل الشارع أن هناك تراخيا واضحا تجاهها يصل إلي حد التوازنات والاستقطابات السياسية, وهي أزمة تلعب قوي خارجية فيها دورا ممنهجا وقوي داخلية دورا مشبوها, ووسط كل هذه وتلك لم نر حتي الآن موقفا سياسيا أو أمنيا وعسكريا يرقي إلي مستوي الأزمة التي إن تداعت أكثر من ذلك فلن يصبح الأمر متعلقا بسيناء وحدها وإنما بالخارطة المصرية ككل, فسيناء مجرد بداية سوف يعقبها بالتأكيد ومن واقع خرائط التقسيم المعلنة بقاع أخري في الخارطة تتخذ وضع الاستعداد الآن, فماذا نحن فاعلون؟!