أعطى نصارى نجران حقوقهم كاملة وجدد معهم عهد رسول الله وأمنهم على أموالهم وأبنائهم وكنائسهم وترك لهم حق حرية الاعتقاد "غَيْر مُبْتَلَيْنَ بِظُلْمٍ وَلا ظَالِمِينَ".. وحكم اليمن فطبق ما عرفه من فقه مما أعاد إلى الواقع الإسلامى أجواء الخلافة الراشدة وساد العدل والاستقرار
يعتبره الكثير من الفقهاء قطبا للفقه الإسلامى فى القرن الثالث الهجرى، ذلك القرن الذى تلى عصر ازدهار الفقه الأول وبزوغ نجم رواد علم الفقه العظام ومؤسسى أصوله، وفى الحقيقة فإن الإمام الهادى لم يكن تحت منظار الباحثين ولم يكن له الكثير من الآثار التى يعكف علماء السنة على دراستها، لكن مع هذا نرى الإمام الراحل محمد أبوزهرة، وهو أحد أكبر وأعلم علماء الفقه فى العصر الحديث، يعده من رواد الفقه ومؤسسيه برغم أنه كان مجتهدا زيديا يتبع المذهب الزيدى الذى أسسه الإمام زيد بن على زين العابدين عليهم رضوان الله أجمعين، وتجدر الإشارة هنا إلى أننا سنعتمد على ما أورده الإمام "أبوزهرة" فى شأنه، ذلك لأنه أحد أكبر وأفقه علماء السنة، وعلى يديه تتلمذ الكثير من علماء عصرنا والعصر السابق علينا، لكنه دعا بوعى لافت وتأصيل جدير بالاتباع إلى الاستفادة من تراث المسلمين كله سواء كان سنيا أو شيعيا، ولهذا تتبع أثر الإمام الهادى واستخرج إحدى رسائله من دار الكتب واطلع عليها وشرحها وأبرز ما فيها من وجوه الفقه المتفردة، على أمل أن نفرد لأبى زهرة حلقة خاصة نستعرض فيها منهجه وتأصيلاته الفقهية واستنارته واستبساله فى الدفاع عن كلمة العلم وكرامة العالم.
كما ذكرنا فإن أبوزهرة يعد الإمام الهادى أحد أقطاب الفقه فى القرن الثالث، ويقول إن آراءه واجتهاداته واجتماعها بآراء جده القاسم الرسى وآراء الناصر الأطروش كانت محور الدراسة فى القرن الرابع الهجرى، ولهذا أفرد لها دراسة موجزة تشرح أبواب فقهه وأهم اجتهاداته، ملقيا الضوء على الكيفية التى تطور بها المذهب الزيدى الذى يتبعه أهل اليمن الشقيق.
والإمام الهادى هو الهادى إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسى، ولد بالمدنية سنة 245 هجرية، وعكف على دراسة الفقه من كل نواحيه وفى كل مصادره وقام هاديا مرشدا يدعو إلى الله سبحانه وتعالى وإلى صراطه المستقيم، وقد كان يتمتع بشهرة إقليمية كبيرة، حيث كانت الناس تأتى إليه من كل بقاع العالم الإسلامى لتستفتيه فيفتيهم، متبنيا منهج الدفاع عن القرآن والسنة فى عصر كثرت فيه الأقاويل وحادت فيه البوصلات، ومجتهدا فيما لم يرد فيه نص، وكان فى ذلك مقتديا بالرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فيقول الإمام شارحا منهج الرسول فى الاجتهاد: إن رسول الله لم يكن ليخترع أمرا دون علم الله سبحانه وتعالى، كما حكى القرآن عنه صلى الله عليه وسلم إذ قال: "إن أتبع إلا ما يوحى إلى"، وقال تعالى: "ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء".
والسبب فى اهتمام الإمام الهادى بتأويل اجتهاد الرسول وإبراز كيفيته وحجيته هو أن جماعة من المسلمين الذين أرادوا أن يكيفوا الإسلام على هواهم الشخصى ادعوا أن من حقهم أن يجتهدوا منفصلين عن أقوال الرسول متحججين فى ذلك بأن الرسول كان يجتهد فيعاتبه الله على اجتهاده أو يصححه له، ولذلك كان يقول إن اجتهادات الرسول فى مكانة التنزيل، ذلك لأن الله كان مطلعا على كل ما يقوله الرسول إن كان واجبا أقره وإن كان مخالفا للناموس صححه وعدله، وهو بذلك لا ينفى أن النبى كان يجتهد، لكنه يؤكد أن اجتهاداته كانت بعلم الله، ضاربا فى ذلك مثلا بموقف الرسول فى غزوة بدر الذى عاتبه الله فى شأنه منزلا آياته البينات التى تجزم بأنه ما كان لنبى أن يتخذ أسرى.
ولأن الإمام كان دائم السعى لنشر دين الله والعمل على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة، ولأنه كان معنيا بتطبيق العدل الذى أمر به الإسلام ومراعاته سافر إلى اليمن فى قرب نهاية القرن الثالث، وهناك وجد الأرض خصبة لآرائه، فعمل على التوسع فى مذهبه وجذب أنصار جدد لمنهجه، وعن هذا التوجه يقول الشيخ أبوزهرة: "فبذر فيها البذر الطيب النقى من الآراء الفقهية العميقة ومن العقيدة الدينية القويمة الخالصة من كل وهم وزيغ، وقد وجد له أتباعا بهذه الحركة المباركة فى أرض اليمن، وقد خرج معه فى هذه الرحلة على بن العباس بن أدهم الحسنى، وكان من أعلم رجال آل البيت الشريف بعلم آل البيت، وهو الذى يروى إجماعات آل البيت وفى إجماعات آل البيت والأحكام التى لا يصح لأحد من فقهاء المذهب الزيدى مخالفتها، وهى تعتبر من أهم مصادر الفقه الزيدى".
فى اليمن بايع الناس الإمام الهادى إماما، ولعل هذه المبايعة هى التى جعلت الناس يفتتنون بالمذهب الزيدى إذ تحقق فى إمامة الهادى وجها المذهب التنظيرى والتطبيقى، فكانت خطبة الهادى عقب البيعة دستورا عادلا راشدا سار عليه وما خالفه، وهذا ما عظم من محبة الناس له، وانظر معى كيف افتتح إمامته بالقول: أيها الناس إنى أشترط لكم أربعا على نفسى، الحكم بكتاب الله وسنة نبيه، والأثرة لكم على نفسى فيما جُعل بينى وبينكم، أوثركم فلا أتفضل عليكم، وأقدمكم عند العطاء قبلى، وأتقدم عليكم عند لقاء عدوى وعدوكم، وأشترط لنفسى عليكم اثنين، النصيحة لله سبحانه وتعالى فى السر والعلانية، والطاعة لأمرى على كل حالاتكم ما أطعت الله، فإن خالفت فلا طاعة لى عليكم، وإن ملت وعدلت عن كتاب الله وسنة نبيه فلا حجة لى عليكم، فهذه هى سبيلى أدعو الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى.
وبهذا الدستور الذى وضعه الإمام الهادى لنفسه يتأكد لنا أنه لم يكن يدعو لنفسه طلبا للسلطة، ولكنه كان مدفوعا بتطبيق العدل وضرب المثال القويم فى الحكم والإمارة، فهو يحدد ما يقصده وما ينتويه، وهو إقامة الحكم الإسلامى العادل الرحيم الشفاف الذى يلزم الحكام بأضعاف ما يلزم الشعب، بالإضافة إلى جمع شمل المسلمين على ما ينبغى التوحد من أجله وهى مبادئ الدين الإسلامى الرحبة السمحة، وقد كان يسعى جاهدا كالإمام زيد إلى توحيد المسلمين تحت نبراس واحد، فكان يقول: لوددت أن الله أصلح هذه الأمة وأنى جعت يوما وشبعت يوما"، ولتثبيت التربة لزرع أفكاره ومبادئه فقد حارب أهل الافتراءات والكذب فى ربوع اليمن حتى استقر له الأمر.
ولأن الإمام الهادى كان يعرف أن الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل فقد ضرب مثالا تطبيقيا فريدا فى إقامة دولة الإسلام الحق التى تكاد تكون مرادفا لكلمة العدل، فعكف على إغناء الفقراء عن السؤال وحارب المبتدعين والمتنطعين الذين يدعون على الإسلام ما ليس فيه، وعمل على طمأنة الناس على أقواتهم وأرزاقهم بحمايتهم من التهديدات الخارجية والاضطرابات الداخلية، وفوق كل ذلك عمل على نشر العدالة الاجتماعية ونظم بيت المال وجمع الزكاة ووزعها على مستحقيها وأوجب صرف ربع ما يجمع بين أهل القرية التى يجمع منها الزكاة، ونظم بيت المال بصرامة متناهية حتى ساد العدل ربوع اليمن وانتقلت أخبار عدله إلى الأمصار المجاورة، ويقول الإمام أبوزهرة فى هذا: "وقد سار الهادى فى حكم البلاد اليمنية على سنة العدل مما جعل الأهليين يرون فيه مظهرا لحكم الإسلام مصدرا لعهد الخلفاء الراشدين الأولين، وإن رسائله وخطبه وعهوده تجعل القارئ يحس بأنه يعود بالإسلام إلى إلى عهده الأول عهد أبى بكر وعمر وعلى الذى يعتبرون الحاكم منفذ أحكام الله تعالى، بحيث يحس بها الصغير والكبير والأمير والخفير، ولهذا الاطمئان إلى الحاكم العادل سار جند اليمن وراءه طائعين لا كارهين، فأخضع نجران إلى ولايته وأعطى نصارى نجران ما كان أعطاهم الرسول عليه الصلاة والسلام، فجدد لهم عهدهم فأثبت لهم الذمة والعهد، وللتذكرة فإن الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه قد أعطى نصارى نجران ما يمكن أن نطلق عليه "حقوق المواطنة" الكاملة حيث عهد إليهم بعهد مكتوب قال فيه: "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ لِلأسْقُف أَبِى الْحَارِثِ، وَأَسَاقِفَةِ نَجْرَانَ، وَكَهَنَتِهِمْ، وَرُهْبَانِهِمْ، وَكُلِّ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ، لا يُغَيَّرُ أُسقفٌ مِنْ أسقفَتِهِ، وَلا رَاهِبٌ مِنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلا كَاهِنٌ مِنْ كَهَانَتِهِ، وَلا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلا سُلْطَانهُمْ، وَلا مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، جِوَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَبَدًا مَا أَصْلَحُوا وَنَصَحُوا عَلَيْهِمْ غَيْر مُبْتَلَيْنَ بِظُلْمٍ وَلا ظَالِمِينَ".
وفى الحقيقة لم تكن شهرة الإمام الهادى واقفة عند كونه حاكما صالحا، لكنها تعدت هذا الحيز إلى الشهرة بالعلم والفقه، فقد كان الحكم عاملا مساعدا له ليطبق ما عرفه من فقه وليس العكس كما يحدث الآن، فنراه يوجب على بيت المال شراء العبيد الذين يسلمون وهم مملوكون لغير المسلمين، وفى ذلك تطبيق لمبدأ من مبادئ الزكاة وهو إعتاق الرقاب، كما حارب القرامطة بالسيف والقلم، أى عسكريا وفكريا، وأصيب أكثر من مرة فى معارك الجهاد ضد الضالين المضللين، وبعد رحلة طويلة فى العلم والحكم ترك الهادى كتبا فى الفقه والحديث منها كتاب الأحكام سلك فيه مسلك الإمام مالك فى الموطأ يذكر الأحاديث والآثار ويذكر تخريجه لها واجتهاده حولها، ويربط أكثر المسائل بالأدلة التى تقوم عليها، وقد دون إسنادات الإمام زيد فى كتابه الشهير "المجموع".
ويحدد أبوزهرة سبب خروج أئمة آل البيت ومنهم يزيد والهادى والناصر الأطروش بأنهم ما كانوا يبتغون حكما ولا رياسة، ولكنهم رأوا البدعة تحيا والباطل يسود فخرجوا لإقامة دولة الحق وخفض دولة الباطل، لكن أبوزهرة أيضا كان منتبها لما قد يتهمه به بعض الأصاغر فقال هاجيا للتعصب المذهبى البغيض إننا "ورثنا فى هذا العصر التفرق المذهبى حتى أخذ بعضنا يكفر الآخر من غير حجة ولا بينة، وصارت للآراء والأفكار عصبية تشبه عصبية الجاهلية، فابن الشيعى شيعى وابن السنى سنى، يتوارث المذهب كما يتوارث الجسم واللون من الأب إلى ابنه، وأصبحت كل طائفة كأنها جنس قائم بذاته، ومن يغير مذهب أبيه الشيعى يكون كمن يغير دينه ويرتد بعد الإيمان، وأهل كل مذهب يحسب أن مذهبه تراث لهم فقط وليس تراثا للإسلام كله، وإن اعتبره تراثا للإسلام فإنه يتبع ذلك بأن مذهبه هو الإسلام، وإن ما عاداه انحراف لا يؤخذ به وضلال لا يلتفت إليه، وبهذا النفاق السياسى والمذهبى ضاعت القوى وأذلنا أعداؤنا".