درجة العسكرة التى بلغتها الولايات المتحدة تذكر بالإمبراطورية الرومانية فى لحظة انهيارها؛ فليس سرا أن الميزانية العسكرية الأمريكية تفوق مجمل الإنفاق العسكرى لجميع بلدان العالم الأخرى. ومن المعلوم أن القطاع الصناعى الأمريكى بات يعتمد على الحرب، خصوصا بعد نقل أغلب الإنتاج السلعى المدنى الأمريكى إلى البلدان ذات اليد العاملة الرخيصة، وكلف الإنتاج المتدنية.
ولهذا السبب بالذات تضطر الولايات المتحدة باستمرار إلى خوض الحروب؛ ذلك لأن القنابل والصواريخ التى تنتجها يجب أن تنفجر، وإلا فإنها سرعان ما تتكدس فى المستودعات و«سيفقد الناس وظائفهم».
فى عام 107 قبل الميلاد، أجرى القائد الرومانى جايوس ماريوس إصلاحا عسكريا بدأ بتجنيد جميع المواطنين من غير أصحاب الأملاك، ولبّى حاجات الجيش من المجندين بالمواطنين الذين لم تتجاوز ملكيتهم 4 آلاف آس، أى الفقراء.
وجود عدد كبير من المواطنين الفقراء فى روما أتاح الفرصة لزيادة كبيرة فى تعداد الجيش. وجُهزت هذه الفيالق بالعتاد العسكرى المتكامل ودُعمت بالمرتبات الثابتة من الخزينة العامة. وقد أدى هذا الإصلاح إلى تغيير فى التركيبة الاجتماعية للجيش الرومانى وطبيعته: إذ أصبحت الكتلة المحرومة فى المجتمع تشكل عموده الفقرى، وتحول من مجرد مليشيا مدنية ليتطور إلى جيش من المرتزقة المحترفين. وهذا سمح باستخدام الجيش فى الصراع الداخلى على السلطة فى روما؛ إذ راح الجنود يقاتلون من أجل قادتهم الذين يدفعون رواتبهم. وبهذا بدأ عصر الحروب الأهلية.
حارب جايوس ماريوس ضد سولا، ثم خاض يوليوس قيصر حربه مع بومبيوس، ثم قاتل أوكتافيوس ضد أنطونيو. وفى القرن الثالث الميلادى، دخلت الإمبراطورية الرومانية فى الفوضى العارمة التى فرضتها الحروب المتواصلة بين «أباطرة الجند».
فى الولايات المتحدة، ألغى التجنيد الإلزامى فى عام 1973 بعد رفض المجندين جماعيا الذهاب إلى الحرب فى فيتنام، واستبدل مكان التجنيد الإلزامى، نظام التعاقد. وبهذا تحول الجيش الأمريكى إلى «قوات تعاقدية» وأصبح يتكون من محترفين. هذا الحل يشبه إلى حد كبير إصلاح جايوس ماريوس.
ومع أن تشكيل الجيش يكون من مواطنى الولايات المتحدة ويتطلب استخدامه على نطاق واسع إذنا من الكونجرس، فإن احتلال العراق وأفغانستان أظهر أن مواطنى الولايات المتحدة لديهم موقف سلبى جدا وحساسية تجاه الخسائر حتى فى صفوف الجيش القائم على النظام التعاقدى.
بلاك ووتر
هذا هو السبب الأساسى وراء التوجه نحو استخدام الجيوش الخاصة فى القتال بجانب الجيش الأمريكى، وميزته أن خسائره البشرية لا تهم ولا تثير رد فعل لدى أحد من مواطنى الولايات المتحدة.
فى هذا المضمار، كانت «بلاك ووتر» الشركة التى حظيت بالشهرة الكبرى بين شركات «الجيوش الخاصة» فى أمريكا. أسسها عام 1997 الضابط السابق فى القوات البحرية الأمريكية الخاصة إريك برينس البالغ من العمر 27 عاما، والمدرب الميدانى على الأسلحة النارية آل كلارك. بدأاها شركة أمنية تختص بتقديم خدمات الدعم والتدريب العسكرى وعمليات تطبيق القانون. مع مرور الوقت، أصبحت الشركة الأمنية شركة عسكرية حقيقية خاصة؛ حيث أُسست عام 2002 شركة «بلاك ووتر» للاستشارات الأمنية (BSC) التى شارك عناصرها فى الحرب فى أفغانستان. وظهرت «بلاك ووتر» فى العراق مباشرة بعد سقوط نظام صدام حسين (2003) باعتبارها واحدة من 60 شركة أمنية أخرى، وانخرطت فى تدريب الجيش والشرطة العراقيين الجديدين، فضلا عن تقديم الدعم إلى قوات الاحتلال الأمريكى.
جيوش المرتزقة
ليس سرا أن الأثرياء والشركات فى الولايات المتحدة لا تبخل بالأموال الطائلة فى الإنفاق على الأمن الخاص. وتؤكد المعطيات أن الإنفاق على الأمن الخاص فى هذا البلد يفوق بكثير حجم الإنفاق العام على قوات الشرطة النظامية. وبالنظر إلى التفاقم السريع والكبير فى التفاوت الطبقى واضمحلال الطبقة الوسطى فى الولايات المتحدة، فإن ثمة هوة واسعة باتت تفصل بين النخبة العليا والشرائح السفلى من المجتمع. وهذا هو السبب الذى يدفع النخبة العليا إلى تأسيس وتنظيم الجيوش الخاصة والشركات الأمنية. ويدفع فى الوقت نفسه باراك أوباما إلى السعى نحو إلغاء حرية بيع الأسلحة، بمعنى تشجيع المواطنين العاديين على نزع سلاحهم. ومع ذلك، فإن النخبة العليا فى المجتمع عندما بدأت بالاعتماد على المرتزقة، راحت تتورط فى الاعتماد على هؤلاء بالذات. وهنا، عند لحظة ما يمكننا أن نرى انقلابا عسكريا فى الولايات المتحدة؛ إذ يستولى على السلطة بالقوة دكتاتور على هيئة «سولا» أو إمبراطور على شاكلة «يوليوس قيصر». وعلى هذا توجد مؤشرات واقعية؛ ففى نوفمبر 2003، ذهب الجنرال تومى فرانكس قائد الحملة الأمريكية على بغداد، بعيدا حينما تنبأ قائلا: «هجوم إرهابى كبير آخر على الولايات المتحدة ويبدأ نسيج دستورنا بالتمزق»، ويقول إنه فى مثل هذه الظروف، سيكون على استعداد للنظر فى هذه الفكرة: «يجب أن يخدم الدستور نموذج الحكم العسكرى».
المجمع الصناعى يقود أمريكا
البروفيسور الأمريكى تشالمرز جونسون (حارب فى كوريا، وعمل مستشارا لـCIA فى سنوات 1967- 1973)، كتب فى عام 2007، يقول: «أنا مقتنع بأن جورج دبليو بوش وديك تشينى أوقعا البلاد فى مأزق خطير. ومع ذلك فهذا ليس ذنبهما وحدهما، وإزاحتهما عن السلطة لن تحل المشكلة؛ فأزمة الحكم فى الولايات المتحدة يعود تاريخها على أقل تقدير إلى الحرب العالمية الثانية؛ إذ إن تضخم (الرئاسة الإمبراطورية) مقابل الضمور الكبير فى السلطتين التشريعية والقضائية، له جذور عميقة فى المجمع الصناعى العسكرى فى فترة ما بعد الحرب؛ حينما سلّمت غالبية المجتمع بالاستنتاج القائل بأن الجيش هو المؤسسة الأهم والأكثر فاعلية بين جميع المؤسسات العامة لدينا. الرئيس يدير اليوم الحكومة بطريقة لم تتح لأى ملك مطلق؛ ففى حوزته وكالة الاستخبارات المركزية وجيش خاص غير خاضعين للمساءلة أمام الكونجرس والصحافة أو الجمهور؛ فكل ما تفعله CIA سرى. والإنفاق على التسليح يجرى النص عليه فى أكبر عدد ممكن من بنود الموازنة، بحيث إن أى عضو من أعضاء الكونجرس يفكر فى التصويت ضد نظام التسليح الجديد يمكن اتهامه بأنه يريد ترك ناخبيه بدون عمل. أعتقد أن الحفاظ على إمبراطوريتنا الخارجية وراء البحار (737 قاعدة عسكرية فى جميع أنحاء العالم) تتطلب هذه الموارد والتطلعات التى حتما سوف تضع حدا لديمقراطيتنا، وتقودنا فى نهاية المطاف إلى دكتاتورية عسكرية أو إلى معادل مدنى لها».
انقلابات فى الجيش الأمريكى
فى هذا السياق، من المثير للاهتمام استعراض المعلومات التى نشرت فى خريف العام الماضى:
«فى الأول من أكتوبر، وضعت إدارة أوباما جميع القواعد العسكرية الأمريكية فى البلاد وفى الخارج فى حالة تأهب؛ وذلك رغم أنه لم يطرأ تهديد إرهابى للولايات المتحدة. ووقتها سُمى العدو بـ(الداخلى)، لكن جذوره تمتد بعيدا خارج الحدود الأمريكية. اليوم، تمت تنحية الأدميرال تشارلز إم. جاوتيه من منصبه فى قيادة واحدة من ثلاث مجموعات من حاملات الطائرات فى بريميرتون وواشنطن، للمثول أمام لجنة التحقيق. هذا القرار اتخِذ بناء على محادثة مع وزير الدفاع الذى قال فى نهاية الحديث إن جاوتيه كان جزءا من مجموعة من الضباط العسكريين المشتبه فى تخطيطهم لقلب نظام إدارة أوباما، إذا أعيد انتخابه. هذه ليست تكهنات. العشرات من الضباط أقيلوا ومئات غيرهم قيد التحقيق والتحرى بعلاقتهم بهذا الشأن. وجميع هؤلاء مرتبطون مباشرة بعناصر متطرفة فى الحزب الجمهورى واللوبى الإسرائيلى. هذه تقارير جاءت من أعلى المستويات فى البنتاجون. وهذا يشير إلى أن (الإدارة) كانت على علم مسبق بخطط هذه المجموعة.
واليوم نحن نعرف أن مفاتيح أساسية فى الجيش ممن لديهم ولاء لـ(إسرائيل) و(وول ستريت) أكثر من الولايات المتحدة؛ قد خططوا لانقلاب بعد الانتخابات الرئاسية. وبالإضافة إلى الاستيلاء على السلطة، وضعوا فى قائمة خطواتهم، تنظيم إرهاب شامل فى الولايات المتحدة، وربما استخدام أسلحة نووية مسروقة، وإخضاع البلاد لقانون (طوارئ حالة الحرب)، وتنظيم هجوم على العراق وإيران بمساعدة المملكة العربية السعودية ودول الخليج.
الخطة كانت معروفة؛ ليس لوزارة الدفاع فقط، بل لكل وكالات الاستخبارات الأمريكية؛ فحُددت هوية المتورطين، ووضعوا مبكرا تحت المراقبة. كافة المعلومات استُقيت من أكثر من مصدر رسمى».