وجد الإخوان أنفسهم فى شهور قليلة بعد وصولهم إلى قمة السلطة بين خيار من اثنين: إما الاستمرار والاستئثار، وإما الانهيار والسقوط الكبير، وكان طبيعياً أن ينحازوا إلى الخيار الأول فدونه العودة إلى المربع صفر.. وهكذا جاءت ممارساتهم فى السلطة أشد استبداداً وقسوة من نظام استمر يحكم البلاد لأكثر من ثلاثين عاماً.
كان كل شىء يمضى فى طريقه المحدد سلفاً، فى هذه اللحظة تحديداً أدرك الإخوان المسلمون أن النظام يتأرجح بين البقاء والسقوط، قرروا المشاركة بعد ثلاثة أيام من اندلاع التظاهرات العارمة غير أن موقفهم السياسى المعلن ظل يتأرجح هو الآخر بين الإصرار على ضرورات تحقيق الإصلاحات السياسية المشروعة وبين المطالبة على استحياء برحيل النظام وإسقاطه.
لقد مارسوا اللعبة مع النظام السابق قبل وأثناء الثورة بروح الانتهازية السياسية، قاموا بتوزيع الأدوار فيما بينهم، عقدوا الصفقات السياسية وكانوا يواجهون الضربات بمزيد من المرونة والتنازلات وكأنهم يعرفون أن اللحظة آتية بلا جدال وأن عليهم ممارسة لعبة الخداع الاستراتيجى وصولاً إلى تحقيق الهدف النهائى وهو الوصول إلى السلطة فى البلاد.
لقد أكد العديد من قادتهم وفى المقدمة منهم المرشد السابق محمد مهدى عاكف أنهم كانوا ينسقون مع جهاز أمن الدولة ويعقدون الصفقات الانتخابية حول نصيبهم من المقاعد فى مجلسى الشعب والشورى، خاصة فى انتخابات 2005 التى أدت إلى دخول وفوز 88 نائباً إخوانياً بمجلس الشعب وكانوا فى كل ذلك راضين وقانعين وأقصى أمنياتهم أن يسمح لهم النظام بتأسيس حزب سياسى ووقف سياسة المطاردات والقبض على كوادر الجماعة بتهمة إنشاء تنظيم محظور.
كانوا برجماتيين.. !!
ينتهزون الفرصة ويمارسون لعبتهم، كل شىء مباح، طالما أنه يؤدى إلى طريق الحكم والسلطة والبقاء.
فى الأربعينات كان الإخوان يمارسون ذات اللعبة ففى مواجهة الشارع الغاضب من موقف الملك ضد الوفد وحكوماته، كانوا يدفعون بعناصرهم وكوادرهم للنزول إلى الشارع والرد على هتاف «الشعب مع النحاس» بهتاف آخر يخرج عن سياق الجماعة الوطنية وموقفها ليرددوا هتاف «الله مع الملك»!
وقبيل ثورة 1952 بقليل كانت البلاد تغلى رفضا لظلم وجبروت الملك، عمت المظاهرات والإضرابات غير أن مرشد الإخوان حسن الهضيبى كان له وجماعته رأى آخر عبر عنه فيما خطه قلمه فى دفتر التشريفات الملكية بقصر عابدين فى 25 مايو 1952 عندما كتب «نرفع فروض الولاء للملك المفدى ونستنكر الصيحات التى تعالت ضد أعتابكم السامية ونؤكد بعد الإخوان المسلمين كل البعد عنها»!!
قبلها وعندما عقد صدقى باشا مع بيفين معاهدة للدفاع المشترك رفضها الشعب كله إلا الإخوان وعندما تم إلغاء معاهدة 1936 وإعلان الكفاح المسلح ضد الإنجليز فى أكتوبر 1951 قال المرشد العام حسن الهضيبى لجريدة الجمهور المصرى فى 15 أكتوبر 1951«وهل تظن أن أعمال العنف تخرج الإنجليز من البلاد؟ إن واجب الحكومة اليوم أن تفعل ما يفعله الإخوان من تربية الشعب وإعداده، ذلك هو الطريق لإخراج الإنجليز».
الرئيس محمد مرسى
لقد وقف المرشد العام وقتها يخطب فى شباب الإخوان الثائرين ليقول لهم «اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن الكريم» يومها رد عليه المفكر الإسلامى خالد محمد خالد بالقول (الإخوان كانوا أملاً من آمالنا ولم يتحركوا ولم يقذفوا فى سبيل الوطن بحجر ولا طوبة وحين وقف مرشدهم الفاضل منذ أيام يخطب فى عشرة آلاف شاب ليقول لهم اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن الكريم، سمعت مصر المسكينة هذا التوجيه فقذفت صدرها بيدها وصاحت «آه ياكبدى»)!!
وفى زمن عبدالناصر والسادات تكررت ذات المواقف أعلنوا الحرب على عبدالناصر وسعوا منذ البداية إلى فرض شروطهم وتنكروا لوعودهم وانحازوا إلى القوى المضادة للثورة وتجاهلوا كل ما قدمه إليهم عبدالناصر ولم يجدوا فى النهاية من خيار سوى محاولة اغتياله.
وكان موقفهم من نظام مبارك لا يختلف كثيراً عن مواقف سابقيه، لقد بدأت هذه المواقف بمبايعة من جماعة الإخوان للرئيس السابق فى عام 1987، عندما سجل ذلك المستشار مأمون الهضيبى فى كلمة له بمجلس الشعب باسم الجماعة ونوابها، ثم توالت المواقف والصفقات حتى الأيام الأخيرة لسقوط النظام.
أتوقف هنا أمام ثلاثة مواقف أساسية لرموز مهمة بالجماعة تعكس فكر الجماعة ورؤيتها وأيضاً انتهازيتها السياسية.
كان الموقف الأول هو للمرشد العام السابق للجماعة محمد مهدى عاكف الذى سبق أن أعلن أكثر من مرة عن تأييد الجماعة لترشيح الرئيس حسنى مبارك لولاية جديدة وتمنى أن يلتقى به ويتحدث معه كما هو منشور فى مجلة «آخر ساعة».
وكان الموقف الثانى للمرشد العام الحالى د. محمد بديع الذى سبق أن وصف الرئيس مبارك فى حديث له مع الإعلامية منى الشاذلى فى برنامج «العاشرة مساء» على قناة «دريم» فى 15 أبريل 2010 بأنه أب لكل المصريين بل وقال تحديدا إن مصر كلها تحرص على أن يكون الرئيس أبا لكل المصريين وأضاف: نتمنى من الأب حسنى مبارك أن ينظر لأبنائه المسجونين وأن يرفع هذا الظلم الذى ظلمته أجهزته التنفيذية والأمنية عنهم.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل قال: نتمنى حدوث التواصل نرجو أن يمد الحزب الوطنى يده لكل أبناء مصر ولسنا نحن فقط، نتمنى أن نجتمع كلنا لننقذ أمنا، وأضاف: نحن لا نريد أن نحكم مصر الآن، الوطنى يحكم مصر منذ 30 سنة نحن نريد إصلاح مصر الآن، نريد مرحلة انتقالية للشعب تعود له فيها حرياته ويسترد أنفاسه!!
هذا رأى المرشد الحالى إنها كلمات واضحة ومحددة، يثنى فيها على الرئيس السابق ويعتبره أباً لكل المصريين، ذلك الذى ينعته الإخوان الآن بكل سوءات الدنيا.
أما هذا الحزب الوطنى الذى وصفه د. محمد مرسى رئيس الدولة وعضو مكتب الإرشاد مؤخراً بأنه حزب فاسد ومجرم فلم يكن فى نظره قبيل اندلاع الثورة سوى حزب جاد وموضوعى ويتوجب التواصل معه.
لقد سبق أن أدلى د. مرسى بحديث شهير إلى صحيفة المصرى اليوم بتاريخ 25 نوفمبر 2010 أى قبيل اندلاع الثورة بشهرين فقط.. كان يعكس تلك الرؤية!!
لقد اعترف د. محمد مرسى باستعداد جماعته للتنسيق مع الحزب الوطنى فى الانتخابات البرلمانية التى جرت قبيل نهاية 2011، بالقول: لقد قمنا بالتنسيق مع د. حمدى السيد لأنه رجل له أداء طيب ونحن نرحب بأى أحد لكن مرشحى الوطنى يقولون إننا جماعة محظورة، إذن نكلم مين؟ وهل طلب أحد منا شيئاً ولم نفعله، نحن نقدر هذه الأمور تقديراً جيداً ونقدر رموز الدولة.
وأضاف: «المهندس أحمد عز قدرناه فى الدورة السابقة وسحبنا مرشح الإخوان من أمامه تقديراً له، لكن ممارسات عز وهجومه المستمر على الجماعة لم تترك لنا فرصة ولذلك قدمنا مرشحاً لنا أمامه».
حاوروا عمر سليمان ولم يتبنوا شعار الرحيل وأطلقوا العنان لشبابهم فى التحرير
وعلى هذا المنوال راح د. مرسى يتحدث عن مجاملة الجماعة لزكريا عزمى وسامح فهمى وزير البترول والدكتور نصر علام وزير الرى وغيرهم وقال فيهم جميعاً نحن نقدر الأمور ونحترم رموز الوطن.
هذا هو رأيه وإذا كان د. مرسى وجماعته كانوا يرون أن التواصل مع الحزب الوطنى هو شرف وأن إخلاء الدوائر لرموزه هو نوع من التقدير لرموز الوطن، فلماذا الهجمة وتصفية الحسابات ووصفهم بفلول الفساد والاستبداد مع أنه وجماعته كانوا فقط قبل شهرين من سقوط النظام يتمنون التواصل وتقديم الخدمات والطلبات.
هذا عن مبارك وحزبه فماذا عن نجل الرئيس؟
يقول المرشد العام للجماعة د. محمد بديع فى حديث أدلى به لقناة الجزيرة فى 23/1/2010 «إنه يقر بحق جمال مبارك فى الترشح لرئاسة الجمهورية شريطة ألا يتميز عن أى مواطن مصرى فى طريقة العرض على الشعب وبآلية تسمح بالاختيار الحر والنزيه دون ضغوط.
كلام جميل ولكنه بالتأكيد له دلالات وإشارات عندما سئل من ذات القناة وهل هناك انتخابات نزيهة فى ظل النظام الحالى؟ رد بالقول يجب أن تشكل حكومة مؤقتة تجرى الانتخابات كما يحدث فى كل دول العالم الحر ساعتها لن يكون هناك ضغط لذلك أطالب السيد الرئيس بأن يتخلى عن رئاسة الحزب الوطنى حتى يكون هو رئيس مصر كلها وأن يكون أبناؤه جميعاً تحت قيادته على قدم المساواة أما أن يترك حزبه يمتص دمها فهذا أمر يعنى تفضيل أحد الأبناء على أخيه وهذا يؤدى إلى تضاؤل كل الأحزاب وعدم تنميتها!!
هكذا تتضح أبعاد الصورة التى تعكس خطاباً سياسياً وإعلامياً إخوانياً يداهن السلطة، ويبرر لها أفعالها بل يفتح الطريق أمام استمراريتها فى حكم البلاد فى هذا الوقت والمقابل بعض من المكاسب السياسية للجماعة ولو على حساب الوطن، إنها ذات المواقف التى كانت تعكس نفسها على الأرض.
كان طبيعياً والحال كذلك أن يعاد إنتاج ذات التصريحات فى التعامل مع دعوة الحشد لثورة الخامس والعشرين من يناير لقد ظل الموقف يكتنفه الكثير من الغموض والرفض المعلن أحياناً، بينما تركت الجماعة لبعض رموزها البرلمانية على وجه التحديد للمشاركة فى الانطلاقة كأفراد، لحين تبيان الموقف، قبيل التورط فيه.
فى الثامن والعشرين من يناير كان الإخوان طرفاً فاعلاً وأساسياً فى جمعة الغضب، انهارت الشرطة اشتعلت الحرائق وتم اقتحام السجون وأقسام الشرطة، وبدأ النظام يتهاوى.
فى هذه اللحظة تحديداً أدرك الإخوان أن الساعة قد حانت وأن تجربة تونس يمكن استنساخها فى مصر، وأن الجماهير زحفت إلى الميادين ولن تعود إلا بسقوط النظام، كانوا على ثقة بأنهم القوة الوحيدة الأكثر تنظيماً.
إنهم وحدهم الجاهزون لاستلام السلطة وربما لن يتكرر السيناريو مرة أخرى إذا ما فشل المخطط.
كانت كوادرهم جاهزة، حشدوهم فى كل مكان، قادوا حركة الجماهير نحو التشدد بينما كان جناحهم الرئيسى يناور مع النظام، ويقدم نفسه على أنه الصوت العاقل وسط هذا الضجيج الذى لا يريد أن يتوقف.
محمد بديع
فى هذا الوقت شهدت البلاد موقعة الجمل ثار حولها جدل كبير واتهامات متعددة، غير أن الأيام وحدها ستكشف حقائق ما جرى، كان الاتجاه حتى هذا الوقت هو مزيدا من التصعيد على الأرض كانت الشعارات تحمل كلمة واحدة «ارحل».
طلب مبارك من نائبه عمر سليمان إجراء حوارات مع الأحزاب والقوى السياسية حول مطالبها المشروعة خاصة بعد أن ألقى خطاباً فى الأول من فبراير أكد فيه أنه لن يترشح هو أو نجله لانتخابات الرئاسة القادمة وأبدى فيه استعداده لتنفيذ الإصلاحات التى وعد بها.
مساء الأربعاء 2 فبراير أى بعد موقعة الجمل بساعات قليلة تلقيت وغيرى اتصالات من مكتب اللواء عمر سليمان للمشاركة فى لقاء سيعقده نائب الرئيس بمبنى مجلس الوزراء صباح الخميس 3 فبراير.
كانت الدعوة موجهة إلى عدد من الأحزاب والقيادات النقابية والرموز السياسية والشخصيات العامة وكان اللقاء ضمن سلسلة لقاءات يعقدها اللواء عمر سليمان لمناقشة المطالب المطروحة وسبل الخروج من الأزمة.
اتصلت بالدكتور يحيى الجمل والسيد الغضبان لمعرفة موقفهما من الدعوة الموجهة إلينا وكان الرأى هو عدم المشاركة احتجاجاً على موقعة الجمل، أجريت اتصالاً بمكتب اللواء عمر سليمان وأبلغته بموقفى وموقف الدكتور الجمل وفى صباح يوم السبت عاودوا الاتصال بنا مرة أخرى، سألت عن أسماء المدعوين وعندما عرفت أن جماعة الإخوان وحزب الوفد وعددا من شباب الثورة والعديد من القيادات والرموز سوف يشاركون اتفقت مع د. الجمل والسيد الغضبان على المشاركة لإبلاغ وجهة نظرنا.
كان موعدنا الحادية عشرة من صباح الأحد 6 فبراير كان د. السيد البدوى ونجيب ساويرس ود. يحيى الجمل ود. رفعت السعيد فى مقدمة الحضور انتظرنا لأكثر من نصف ساعة، ضاق الحاضرون ذرعاً، وعندما سألنا إيه الحكاية؟! قيل لنا إن النائب عمر سليمان مجتمع منذ أكثر من نصف ساعة مع وفد الإخوان المسلمين فى الدور الأول من مبنى مجلس الوزراء.
بعد قليل صعد اللواء عمر سليمان وبصحبته د. محمد مرسى ود. سعد الكتاتنى عضوا مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان، كان اللقاء يمثل متغيراً جديداً على الساحة إنها المرة الأولى التى يستقبل فيها مسئول كبير بالنظام اثنين من قادة الجماعة علانية ويدعوهما للمشاركة فى الحوار بصفتهما الإخوانية.
بدأت جلسة الحوار بدعوة من النائب عمر سليمان للحاضرين بالوقوف دقيقة على أرواح شهداء الثورة اهتزت مشاعر المشاركين وبدا الأمر وكأننا أمام صفحة جديدة فى التعامل مع الثورة والثوار، لقد شارك فى هذا اللقاء أربعة من شباب الثورة وكانت للمشاركة دلالتها فى هذا الوقت.
تحدث عدد من الحاضرين وجاء الدور على ممثلى الإخوان طلب د. محمد مرسى الكلمة كانت مفرداته محددة، لقد ركز على ثلاثة مطالب اعتبرها مهمة وضرورية.
إلغاء حالة الطوارئ فى البلاد
الإفراج عن المعتقلين السياسيين
تحقيق الإصلاح السياسى والاجتماعى
لم يتطرق د. مرسى الذى تحدث باسم الجماعة وعبر عن رأيها من قريب أو بعيد إلى المطلب الخاص برحيل الرئيس مبارك وتنحيه عن السلطة بينما انطلقت أصوات أخرى كانت أكثر شدة وتحدياً للنظام.
بعد سيل المناقشات التى جرت أعلن نائب رئيس الجمهورية توصيات اللقاء التى اتفق عليها المجتمعون بمن فيهم ممثلو جماعة الإخوان وكان أبرز هذه التوصيات التمسك بالشرعية الدستورية فى مواجهة التحديات والمخاطر التى تواجه مصر ورفض التدخلات الأجنبية فى الشأن المصرى والإقرار بأن حركة 25 يناير حركة وطنية شريفة وتنفيذ التعهدات التى تم الاتفاق عليها بين أطراف الحوار الوطنى وأهمها عدم ترشح الرئيس مبارك لفترة رئاسة مقبلة وتحقيق الانتقال السلمى للسلطة وفقاً لأحكام الدستور وإجراء تعديلات دستورية تشمل المادتين 76، 77 وما يلزم من تعديلات متعلقة بهما وتنفيذ قرارات محكمة النقض الخاصة بالطعون الانتخابية لمجلسى الشعب والشورى.
تواصلوا مع المجلس العسكرى.. وكانوا هم خلف شعار «يسقط حكم العسكر»
وهكذا لم يتضمن البيان حتى هذا الوقت 6 فبراير 2011 أى توصية برحيل مبارك أو حتى مجرد نقل اختصاصاته إلى نائبه عمر سليمان ولم يعترض الإخوان على البيان فى هذا الوقت حتى وإن تراجعوا بعد ذلك.
بعد أن انتهى الاجتماع التقى نائب رئيس الجمهورية بمجموعة من شباب الثورة فى لقاء خاص بالدور الأول من مبنى مجلس الوزراء وكان أبرز ما طرحوه هو أن يتم استخدام نص المادة 193 من دستور 1971 لنقل صلاحيات الرئيس إلى نائبه إلا أن عمر سليمان رد عليهم بالقول «إن ذلك من شأنه أن يؤجل إجراء التعديلات الدستورية المطلوبة كما أنه لن يسمح بإزالة المعوقات التى تحول دون ترشح المستقلين والتى تتضمنها المادة 76 من الدستور وكذلك يحول دون تعديل المادة 77 الخاصة بمدة الرئاسة».
كان الدكتور يحيى الجمل مؤيداً لوجهة نظر اللواء عمر سليمان وكان يرى أنه من الناحية الدستورية والقانونية لا يجوز إجراء هذه التعديلات دون وجود الرئيس فى منصبه لحين إجرائها.
كانت الآراء متباينة بين عدد من السياسيين والقانونيين حول مدى دستورية إجراء التعديلات فى ظل نقل الرئيس لكامل سلطاته إلى نائبه عمر سليمان غير أن الاتجاه الذى كان سائداً لدى الكثيرين حتى هذا الوقت هو أن يبقى الرئيس شريطة أن تقتصر مهمته فقط على إجراء التعديلات الدستورية واتخاذ القرارات التى من شأنها تحقيق الإصلاح السياسى ومكافحة الفساد فى البلاد.
كان هذا الموقف يصطدم بالشعارات المرفوعة فى ميدان التحرير غير أن الإخوان المسلمين، كانوا يمارسون لعبة مزدوجة مع النظام فى هذا الوقت، ففى الوقت الذى دفعوا فيه بعدد كبير من كوادرهم إلى الميدان رافعين الشعارات التى تطالب بإسقاط النظام كانت الجماعة تبعث بمندوبيها إلى ساحة الحوار مع نائب الرئيس وترفض تبنى خيار رحيل مبارك علانية.
كان اللواء عمر سليمان قد طلب منى الانتظار لمقابلتى على انفراد بعد انتهاء الاجتماع، التقى عددا من شباب الثورة ثم جاء دورى فى اللقاء الذى استمر لنحو نصف ساعة.
سألت اللواء عمر سليمان فى هذا الوقت، عن لقائه المنفرد بوفد الإخوان وموقفهم من مطلب رحيل الرئيس فقال لى إنهم لم يطرحوا عليه هذا المطلب فى اللقاء الذى عقده مع د. مرسى ود. الكتاتنى قبل جلسة الحوار الموسعة وقال إن مطالبهم التى عبرا عنها هى ذات المطالب التى أعلنوها، وإن كانا قد طالبا بالسماح للإخوان بالحق فى تشكيل حزب سياسى.
قال لى عمر سليمان.. إننى أبلغت ممثلى الجماعة بأن عهداً جديداً سوف يبدأ فى مصر وبأن الحق فى تشكيل الأحزاب سيكون متاحاً للجميع وقال عندما أثاروا مخاوفهم من مطاردة النظام لعناصرهم التى شاركت فى الميدان تعهدت بأن النظام لن يصفى حسابات مع أحد.
كان عمر سليمان مرتاحاً من هذا اللقاء، لقد طالبهما بتهدئة عناصرهم فى ميدان التحرير، فأبلغاه أن الموقف سيدرس داخل الجماعة وأنهم مع الاستقرار والشرعية شريطة الالتزام بتنفيذ مطالب الثورة.
فى هذا الوقت سألت اللواء عمر سليمان عن المعوقات التى تحول دون نقل سلطات الرئيس إليه كوسيلة لتهدئة حالة الغضب السائدة فى البلاد، فقال لى إن الرئيس عرض عليه هذا الأمر يوم 29 يناير أى فى أعقاب تعيينه نائباً للرئيس وقال لقد قلت له إن ذلك يعنى عدم إجراء أى تعديلات دستورية لأن الرئيس وحده هو صاحب القرار فى هذه التعديلات التى يجب أن يحيلها إلى مجلس الشعب ثم يصدرها الرئيس.
سألت اللواء عمر سليمان عما إذا كان سيرشح نفسه لمنصب رئيس الجمهورية فى شهر سبتمبر المقبل بعد أن تعهد مبارك بأنه لن يرشح نفسه مرة أخرى فقال أنا لن أرشح نفسى لأى منصب آخر، كل ما يهمنى هو ألا تسقط البلاد فى يد الإخوان المسلمين، لأنهم التيار الوحيد القادر على الفوز بالانتخابات، فهم الأكثر تنظيماً ولو وصلوا إلى الحكم فلن يتركوه أبداً، وبهذا تكون المطالب التى يرفعها الشباب فى ميدان التحرير كعدمها.
كان عمر سليمان حانقاً فى هذا اللقاء على الموقف الأمريكى وكان يرى أن الأمريكان باعوا مبارك وأنه إذا ما استمرت الأوضاع المتأزمة فى البلاد، فإن مصر معرضة لانقلاب عسكرى قد يطيح بكل شىء أو أن البديل سيكون الإخوان المسلمين وقال لا أظن أن الأمريكيين سيعترضون على ذلك.
مضيت من اللقاء بينما كانت هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية تصدر تصريحا فى هذا الوقت تعلن فيه عن ترحيب الإدارة الأمريكية بمشاركة جماعة الإخوان المسلمين فى الحوار الوطنى وكان ذلك يعنى أيضاً متغيراً مهما فى موقف واشنطن التى سبق لها أن أعلنت على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية الأسبق كونداليزارايس فى عام 2005 أن الولايات المتحدة ليس لديها مانع فى وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة فى مصر بالطريق الديمقراطى.
لقد أثار خبر مشاركة جماعة الإخوان المسلمين فى الحوار مع نائب رئيس الجمهورية فى هذا الوقت حالة من الجدل الشديد فى جميع الأوساط وتحديداً داخل أوساط الائتلاف الثورية التى أدانت الحوار من أساسه وأعلنت براءتها ممن شاركوا فيه باسم شباب الثورة وقد مارس شباب الإخوان ضغوطاً على قيادتهم فى هذا الوقت لإعلان رفضها وعدم مشاركتها مجدداً فى الحوار مع النظام والمطالبة برحيل الرئيس مبارك عن السلطة فوراً.
فى مساء ذات اليوم استضاف برنامج «90 دقيقة» على قناة المحور د. سعد الكتاتنى عضو مكتب الإرشاد فى حديث مطول حول أسباب مشاركة الإخوان المسلمين فى الحوار مع اللواء عمر سليمان وقد حدد الدكتور الكتاتنى الموقف على الوجه التالى حرفياً كما ورد فى البرنامج.
إن ما تم إقراره اليوم فى لقائنا مع السيد عمر سليمان شىء ممتاز جداً، حق التظاهر مكفول شرط عدم تعطيل الحياة العامة.
طالبنا بالعفو العام عن المعتقلين أثناء الثورة، خاصة هؤلاء الذين حوكموا بسبب آرائهم.
طالبنا بإنهاء حالة الطوارئ وأنا أقبل بكلام نائب الرئيس عندما قال نحن فى ظرف أمنى حرج وليست لدينا قوات شرطة للتأمين، دخلنا فى الصياغة واتفقنا على أن ترفع حالة الطوارئ فور انتهاء الظرف الأمنى.
هناك أناس لها مصلحة فى الإثارة، عمر سليمان يقود الآن مرحلة ولا يسلم من أن يكون هناك آخرون وأجنحة لها قوى تريد أن تعوق هذا المشروع.
وعندما سأله المذيع سيد على مقدم البرنامج لو توافقتم على رؤية معينة هل سينسحب شباب الإخوان من المظاهرة؟!
قال الكتاتنى: نحن لا نتعامل مع شباب الإخوان بمنطق السمع والطاعة نحن نتحاور معهم لا بد أن نحترم رأى الشباب فى الميدان شاب الإخوان 10٪ شريحة نحن نحاورهم ولكن فى الغالب الأعم يحترمون قرارات قياداتهم.
وقال لقد طالبنا اليوم أن من أفسدوا الحياة السياسية ونهبوا ثروات البلاد لا بد أن يحاكموا محاكمة عادلة تريح الرأى العام وعندما أقول التغيير بدأ، كل يوم بنشوف قرار جديد، هذا يريح الناس.
وعندما سألته الإعلامية هناء السمرى إذن الأمور مطمئنة ولديك رغبة للتوافق يهمنى أعرف حتوصلوا للحالة التوافقية متى؟!
رد د. الكتاتنى بالقول: قالوا أحكام النقض ستنتهى فى خلال 3 أسابيع، لجنة التعديلات الدستورية ستكون خلال الأسبوع الأول من شهر مارس أى خلال شهر ونصف من اليوم، نحن كنا نطلب هناك أشياء لا بد منها، النقابات المهنية معطلة مثلاً لماذا؟ لقد كنت مع قيادة أمنية كبيرة وقلت له هل تتخيل أن الطالب الإخوانى يمنعونه من أن يكون معيداً بالجامعة؟ لقد تم استدعاء قيادات الإخوان يوم 24 يناير وأنا منهم وقالوا لنا لا نريدكم أن تشاركوا فى المظاهرات وفى اليوم الثالث تم القبض علىَّ، يجب أن نبدأ عهداً جديداً ونتجاوز عن ذلك.
وقال د. الكتاتنى من حرقوا البلد لا بد أن ينالوا عقابهم لأنهم أقلية لقد كان هدفهم تقويض مشروع إصلاحى قادم.
أما د. عصام العريان القيادى بجامعة الإخوان فقد قال فى اتصال هاتفى فى هذا الوقت إن الجماعة طرحت بعد جمعة الغضب رؤى متعددة للخروج من هذه الأزمة إلا أن هناك مراوغة والتفافا على المطالب وهناك أجنحة تعمل على إفساد جهود عمر سليمان.
ونفى العريان مطالبة الجماعة بمهلة زمنية لرحيل مبارك وقال: البلاد لا تحتمل وهناك احترام كامل لمشاعر المؤسسة العسكرية وولائها للرئيس وقال إن المخرج الوحيد للأزمة الحالية هو أن يصدر الرئيس مبارك قرارين بإنهاء حالة الطوارئ وحل مجلس الشعب إذا كان لا يريد للبلاد أن تقع فى الفوضى!!
إذن حتى هذا الوقت لم يكن الخطاب الرئيسى لجماعة الإخوان يدفع باتجاه رحيل الرئيس أو إسقاط النظام كاملاً كانت الرؤية إصلاحية وهو ما اتفق مع طرح بعض الأحزاب والقوى السياسية الأخرى غير أن الموقف غير المعلن للجماعة كان يدفع باتجاه إسقاط النظام على الفور.
كانت واشطن من جانبها تمارس جميع الضغوط على الرئيس مبارك للتنحى عن السلطة وكانت المكالمة الشهيرة بين أوباما والرئيس مبارك فى الأيام الأولى للثورة عاملاً من أخطر عوامل الضغط التى مورست على الرئيس السابق للقبول بتسليم السلطة.
وأدركت جماعة الإخوان أن الجيش حسم أمره منذ إصداره بيان الأول من فبراير الذى أقر فيه بالمطالب المشروعة للمتظاهرين وإعلان رفضه استخدام العنف فى مواجهتهم.
كان عمر سليمان يدرك أن الإخوان هم المستفيدون الوحيدون من وراء سقوط نظام مبارك ورحيل الرئيس وقد حذر من ذلك فى حديث مبكر مع قناة «إيه بى إس» الأمريكية وهو ذات الموقف الذى تبناه الرئيس السابق مبارك فى حديثه مع ذات القناة وفى خطابه الذى ألقاه مساء الأول من فبراير وحذر فيه مما سماه بـ«القوى السياسية التى سعت إلى التصعيد وصب الزيت على النار واستهداف أمن الوطن واستقراره بأعمال الإثارة والتحريض».
كانت القوى الشبابية الثورية تحمل الرئيس مبارك المسئولية عما آلت إليه الأوضاع وكانت الأكثر صدقاً فى رفع شعار الرحيل منذ البداية إلا أنها لم تضع فى حسبانها حتى هذا الوقت احتمالية سيطرة الإخوان على جميع مؤسسات الدولة من الرئاسة إلى البرلمان عبر صندوق الانتخاب وممارسة الضغوط والترهيب ضد القوى الأخرى سواء المجلس العسكرى أو الأحزاب والقوى الثورية.
وخلال الفترة الانتقالية كان الإخوان يلعبون وحدهم على الساحة فى مقدمة فريق من التيارات الإسلامية السلفية والجهادية، كانت شعاراتهم تخدم أهدافهم وكانت رؤيتهم تعبر عن طموحات سلطوية تستهدف الاستئثار بكل شىء، احتكار السلطة والثروة وصناعة القرار وإقصاء الآخرين.. وبالضبط كما فعلوا مع نظام مبارك الذى لعبوا معه لعبة الخداع الاستراتيجى راحوا يمارسون اللعبة أيضاً مع المجلس العسكرى الذى آلت إليه السلطة فى البلاد فى أعقاب سقوط نظام مبارك فى الحادى عشر من فبراير 2011..
كان الإخوان المسلمون هم القوة الأكثر تنظيماً والأكثر قدرة ضمن موروث حزبى تربى فى كنف السلطة حتى أصبح مريضاً بثقافتها عاجزاً عن الأداء والالتحام بحركة الجماهير ليس فقط بحكم التنشئة والحصار وإنما أيضاً بسبب الصراعات الداخلية التى كان النظام يجيد صناعتها ويحرك خيوطها من خلف ستار.
لقد بدأ الإخوان تكتيكاتهم مع المجلس العسكرى منذ اليوم الأول، استغلوا حالة الارتباك وعدم الخبرة فى إدارة شئون البلاد فراحوا يطرحون رؤيتهم تجاه التعديلات الدستورية التى بدأ العمل بها فى الأيام الأخيرة لنظام مبارك ويؤجلون طرح إعداد دستور جديد للبلاد.
كانوا يعرفون أن القوات المسلحة لن تبقى طويلاً لكنهم كانوا يخافون من أن تؤدى التطورات السياسية والأمنية إلى بقاء أطول للجيش فى إدارة المرحلة الانتقالية فراحوا يمارسون اللعبة معهم عبر أكثر من طريق:
الأول: وكان يقضى بتمرير مطالبهم السياسية التى تؤهلهم للسيطرة على حكم البلاد سريعاً بدءا من مجلسى الشعب والشورى وانتهاء برئاسة الجمهورية التى أصبحت حلماً لهم فى وقت لاحق كما كانوا يقولون.
الثانى: ممارسة الضغوط بجميع أنواعها ضد المجلس العسكرى لإجباره على تسليم السلطة سريعا إلى هيئات يجرى انتخابها وقد اتخذت هذه الضغوط وجوها متعددة بدءا من الضغوط السياسية مروراً بالابتزاز والتهديد وانتهاء بتحريك العديد من القوى خلف ستار وإطلاق شعار يسقط حكم العسكر ناهيك عن ممارسات أخرى عديدة كان الهدف من ورائها تحميل المجلس العسكرى مسئولية الفشل الذى سببته بعض الأحداث التى كانت قد شهدتها البلاد فى هذا الوقت.
لقد أكدت الوقائع التى شهدتها البلاد على مدى أكثر من 17 شهراً هى عمر المرحلة الانتقالية التى تولى فيها المجلس العسكرى إدارة شئون البلاد أن هناك «طرفا ثالثا» يدير من خلف ستار وأن هذا الطرف استطاع أن يدفع بالأحداث إلى حيثما يريد ويستهدف فكان سبباً فى تصعيد الأزمات وتحريك الفاعليات.
إنه نفس التكتيك الذى استخدم مع نظام مبارك، يد تمتد وأخرى تلعب فى الظلام حتى إذا ما جاءت اللحظة ظهر الوجه الحقيقى وأزيح الستار ليدرك الجميع حقائق الوضع ولو بعد فوات الأوان.
لقد وجد الإخوان أنفسهم فى شهور قليلة بعد وصولهم إلى قمة السلطة بين خيار من اثنين:
إما الاستمرار والاستئثار
وإما الانهيار والسقوط الكبير
وكان طبيعياً أن ينحازوا إلى الخيار الأول فدونه العودة إلى المربع صفر وهكذا جاءت ممارساتهم فى السلطة أشد استبداداً وقسوة من نظام استمر يحكم البلاد لأكثر من ثلاثين عاماً، وعندما سقط بدأوا هم من حيث انتهى.