2013
كتبت - إشراق أحمد ودعاء الفولي:
عادوا إلى ''القلعة''؛ فمنها كان الانتماء الذي لم يجدوه في غيرها، وإليها كانت الحياة التي لم تعرف سوى لون واحد حتى آخر لحظاتها؛ الحماس والحب والانتماء والدم جميعهم شابه اللون ''الأحمر''، ليصبحوا صوراً اصطفت على بوابة ''القلعة الحمراء''؛ أبت النفوس ولو تركت الصور مكانها أن تترك الذكرى للنسيان مؤكدة ''لن ننساكم''.
''لابس تيشرت أحمر ورايح بورسعيد.. راجع وكفني أبيض وفي بلدي بقيت شهيد''.. هتاف تردد صداه عالياً في أرجاء استاد النادي الأهلي؛ حيث توافد أصدقاء الشهداء وَمن بغض النسيان دون ''الأولتراس'' من كل حدب وصوب، جميعهم جاءوا ليحيوا ذكرى من ماتوا غدراً، وليتذكر أهالي الشهداء أن هناك من سيتذكر دماء أبنائهم دائماً وأبداً.
كانت الهتافات التي بلغت عنان السماء تحمل أسماء الأصدقاء الغائبين الحاضرين.. ''يوسف''و''جونيور'' و''أسامة'' وآخرين.
وكلما زاد عدد أسر الشهداء على الجهة الأخرى من ''الاستاد''، كلما تعالت أصوات شباب ''الأولتراس'' المرحبة بهم والمرددة أسماء أبناءهم تارة، ومستهزئة بالظلم والقهر بكل أشكالهم من خلال أغانيهم الخاصة تارة أخرى.
وخارج البوابة بعد خطوات قليلة من النادي الذي عشقه ابنها؛ وقفت محاولة تمالك نفسها مستندة إلى إحدى السيارات، وكأن الزمن عاد مرة أخرى وإن كانت لم تنسى لكن استحضار لحظات افتقاد صغيرها كانت كفيلة لإرهاق النفس؛ فلم تزد الكلمات عن '' أنا والدة محمود سلامة الحمد لله احتسبته عند ربنا.. الحكم هدانا شوية لكن اللي راح خلاص الحمد لله''.
''محمود سلامة'' أحد الـ'' 72'' الذين لم يعودوا لمدرج التشجيع ولا لأهلهم بعد مباراة ''الأهلى والمصري'' في 1 فبراير 2012، لكن بعد عام عاد اسمه مصاحباً للنادي في ذكرى وفاته جراء الأحداث التي شهدتها المباراة.
جميع أسرته حضروا متحلين بصورة ''محمود'' حول أعناقهم؛ وبينهم كانت ''ياسمين'' - شقيقته - التي اتشحت بالسواد الحامل لكلمات ''يا شهيد يوم ما أفرط في حقك..هكون ميت أكيد'' .
''كان بيحب الاولتراس جدا كان على طول مع اولتراس أهلاوي، حتى أنه كان بيتفوق في الدراسة عشان يتفوق في الالتراس''.. قالتها ''ياسمين'' التي فقدت أخيها فلم يعد لها سوى أخ يصغرها بسنوات .
حرص ''محمود'' على التواجد مع ''الأولتراس'' جعله دائم السعي للتفوق الدراسي؛ فالتفوق بالنسبة له كان واحد سواء بالدراسة أو التشجيع حتى أنه حصد المركز الثاني بمدرسته في الصف الأول الثانوي قبل أيام قليلة من وفاته.
ولم تكن كلماته عن فكرة أن التواجد بالأولتراس سيعطله عن الدراسة '' بابا كان بيقول له بلاش عشان الدراسة فكان بيقول زي ما هاكون متفوق هنا هكون متفوق هنا''.. قالتها شقيقته وهي تتذكر شقيقها والدموع تملأ عينيها .
القدر وحده هو من ساق ''محمود'' للذهاب إلى بورسعيد على الرغم من قرار عدم الذهاب حتى فجر ذلك اليوم لأن '' كان في قرار بالنادي اللي يروح كل اللي معاه بطاقة''، لكن ''محمود'' البالغ من العمر 16 عاماً وفقاً لـ'' ياسمين'': '' مكنش رايح لكن واحد زميله قالوا له تعالى يا محمود نروح الساعة 6 قالي أنا رايح وصحى ولاد عمتي من النوم وسلم عليهم وراح ماشي'' .
لا يمكن لساعات البحث عن ''محمود'' والسفر سريعاً إلى بورسعيد أن تمحوها الذاكرة لدى جميع أسرة ''محمود'' بدءً من الأم ومروراً بالأخوات وأولاد العم الذين سافروا مع والد ''محمود'' إلى بورسعيد، وكذلك عمته التي حملته بعد أن وافته المنية بالمستشفى؛ فالجميع يحمل كلمة تذكره بالمشهد، فعمته المقيمة ببورسعيد قالت '' شوفته كله كان أزرق ومضروب ده مش قتل عادي دول قاصدين حسبى الله ونعم الوكيل''، وابنة عمته التي أكدت أنها رأته في المستشفى.
أما ''ياسمين'' فقالت: '' جالنا الخبر بليل مكناش عارفين أنه مات، بابا خد ولاد عمتي كلهم وسافروا بورسعيد دوروا عليه في كل المستشفيات، آخر مستشفى لقوه، عمتي اتصلت قالت ابن خالكم مات صوتوا واملوا الدنيا صويت ''.
''مات مخنوق في الممر من الشماريخ ووشه كان مزرق''.. هذا كل ما عرفته ''ياسمين'' من تأكيد أسرتها كعلمها أن صديق ''محمود'' مات معه '' أحمد زكريا مات بردو هناك''.
حب ''محمود'' للأهلي وكغيره من أبناء ''الأولتراس'' جعله يسافر ورائه في كثير من المباريات؛ فلم يكن السفر لبورسعيد المرة الأولى فهو '' كان بيسافر في كل حتة'' لكنها كانت ''أول مرة يسافر بالقطر لأنهم قالوا هنا اللي معاه بطاقة بس هو اللي هيسافر بالأتوبيس''.
''محمود'' كان يلعب كرة القدم لكن ليس بالنادي الأهلي، وإن كان يتمنى يوماً أن يلتحق به حتى أن أسرته كانت تمنيه بذلك '' بابا كان بيقوله لو تفوقت في الدراسة هنعملك كل حاجة وممكن نشترك لك في نادي كمان''، فما كان يستعد له بشكل فعلي بعد عودة من بورسعيد هو كان '' بيحضر عشان يلعب في نادي النصر''.
لكن ''محمود'' عاد فتعلقت أمنيته كما تعلقت صورته أمام النادي الأهلي تاركاً ذكراها في ملابسه الرياضية التي اشتراها للعب الكرة لكن '' لسه الترينجات بتاعته ماتلبستش زي ما هي''.
وبالصف الثاني من تلك الصور التي اعتلت بوابة النادي الأهلي، كانت صورته أعلى اسمه كحال رفاقه الذين خلت أماكنهم بمدرج ''مختار التتش''، وسط '' أولتراس أهلاوي'' الذين حرصوا على التجمع في ذكرى رحيلهم .
''أسامة مصطفى''؛ لم يتوقف الحب للأهلي وشباب'' الأولتراس'' حتى بعد وفاته، فوالده ''مصطفى'' هو أب لجميع الشباب؛ رفاق ''مصطفى'' يعرفونه ويحيونه، فلا شعور بالافتقاد في وجودهم.
''أسامة'' هو الوحيد الحامل لهذا الاسم بين الشهداء فهو لم يتكرر؛ استعد ''أسامة'' في الساعة الخامسة فجراً للذهاب فأيقظ والده على غير عادته وودعه، فلم يستسلم لكلمات والده بالبقاء '' يا أوس ما تقصر وتقعد تتفرج عليه في البيت''، لكنه كان على يقين أن ''مش هيحصل حاجة''.
ساعات وتأكد والد ''أسامة'' الذي سافر إلى بورسعيد أن ابنه لن يعود معه، لينتظره بين العائدين الـ''11'' مجهولي الهوية لأنه '' كان مديني بطاقته قبل ما يمشي قال لي عشان لو جرينا ولا حاجة متقعش''.
والد ''أسامة'' ابن ذو الـ19 عاماً ليس بعيداً عن التشجيع وحب الكرة بشكل عام والنادي الأهلي بشكل خاص فهو ''بشجع الأهلي من أيام صالح سليم''.
''أسامة'' الذي توفي نتيجة أنه '' مضروب على دماغه ومكسور رقابته''، شعر والده ببعض الأسى لحبه للنادي الأهلي لأنه ''بيحب الأهلى من هو صغير للأسف أنا اللي حببته فيه كان بيقعد يتفرج معايا''.
وعلى الرغم من فقدان والد ''أسامة'' لابنه الأوسط إلا أنه وجد في ''حكم'' المحكمة الأخير أنه '' هدانا كلنا هدينا مع أنه لسه حكم مش نافذ لكن في بوادر قصاص''؛ فبعده أصبح الوالد يرتدي ''كوفية'' النادي الأهلي وتحولت حياته من المباريات إلى المحكمة.
لم يعد لوالد ''أسامة'' الذي حضر بالاستاد مع أبنائه من ''الأولتراس'' عزاء سوى أبنائه ''ياسر'' و''محمد'' وبشكل خاص ''أسامة الصغير''، الحفيد الذي جاء إلى الدنيا بعد وفاة ''أسامة'' الكبير بشهرين.
ليحضر ''أسامة'' الحفيد وتخط قدمه الصغيرة أعتاب المدرج جوار والده ووالدته وأصدقاء عمه الذي يحمل اسمه، حاملين ذكراه وكذلك الـ '' 72'' شهيداً .