كتبت - إشراق أحمد ودعاء الفولي:
شارع يشبه كثير من الشوارع وملامح تطبعت بجدران بيوتها فجعلت البساطة عنوانها، والمودة والتلاحم فرحاً وحزناً أصلها المتوارث، والرضا سبيلها في الحياة .
في هذا الشارع بمنطقة "الكونيسة" التابعة لمحافظة الجيزة وبالقرب من الطريق الدائري؛ خطت قدمه أولى خطواتها واستمرت طوال 17 عاماً؛ يأتي ويذهب، يلعب ويعمل؛ عرفه أهل ذلك الشارع كما عرفهم.
امتدت أحلامه لتتجاوز أسطح منزله القابع تقريباً في وسط الشارع، فكم تنمى أن يحترف لعب كرة القدم وربما يصافح "أبو تريكة" الذي يحتفظ له بعدد ليس قليل من القمصان الحمراء الحاملة لرقم "22"، فيترك الحلم مسرعاً لأصدقائه ويجمعهم للعب الكرة في أحد مراكز الشباب القريبة من المنطقة.
وأحياناً أخرى يذهب وراءه مشجعاً للنادي الذي أحبه بل قل إن شئت عشقه؛ فأصر أن يكون واحد من "أولتراس أهلاوي"، ولعل هتافهم المعروف الذي إذا تساوى احتمال تشبع أذنه به مع ترديده، فالأكيد أنه تحقق "ويوم ما أبطل أشجع هكون ميت أكيد" .
ارتفعت صورته بمدخل الشارع حاملة تلك الكلمات لتؤكد افتقادها لـ "إسلام أحمد أفندي" - ابن "منطقة الكونيسة" - الذي رحل منذ فبراير الماضي نتيجة نزيف داخلي إثر الضرب ضمن من ذهبوا مشجعين للنادي الأهلي إلى بورسعيد فعادوا جثثاً هامدة.
وأما منزله فمن السهل تمييزه ليس لأن الجميع يعرفه خاصة وأن الشارع معروف باسم "الشهيد إسلام" بل أيضا من الصورة الثانية له بالشارع والتي جاءت قبالة ذلك المنزل المكون من طابقين، والذي من اللحظات الأولى تتأكد أن هنا كانت لـ"إسلام" خطوات وأحلام وذكرى؛ حيث حمل المدخل وحتى الصعود لحجرته بالدور الأول رسوم "جرافيتي" بسيطة باسمه.
تستقبلك والدته التي لا تختلف عن كثير من الأمهات المصريات، وكذلك أخيه الصغير "عثمان" الذي ربما حمل مكان "إسلام" بالشارع، وعلى الرغم من أن ترتيب "إسلام" بين أخواته الثالث قبل الأخير غير أنه كان بمثابة "رجل البيت" على 6 أخوات من البنات أغلبهم تزوجوا، فلم يبقى سواه وأثنين آخرين أصغر عمراً منه .
بالصف الأول الثانوي كان "إسلام" وإن كان سنين عمره الـ"17" كفيلة بجعله متقدماً في المرحلة الدراسية غير أن مرض والده بالذئبة الحمراء منذ ما يقرب من 15 عاماً جعل منه معيناً لوالدته التي حملت عن زوجها مهنته في بيع الخضروات فهو "اللي كان بيساعدنا ومن كتر مساعدته أتأخر سنتين في الدراسة".
"شهادات تكريم، وصور، وقميص وحقيبة مدرسة، ولافتات تحمل اسمه ورسوم خطها بيده على حائط المنزل عن "الأولتراس" والنادي الأهلي".. هي كل ما تبقى لأسرة "إسلام" إلى جانب ذكراه التي يستحيل أن تنساها قلوب وعقول من بالمنزل.
وبالنسبة لوالدة "إسلام" أضيف إلى ذلك ذكرى الحلم الذي تكرر رؤيتها له " أنا أي حاجة بتحصل لي بشوفها قدامي في الرؤية شوفت حاجة ميتة قدامي بقالها 15 يوم بس مكنتش عارفة إذا ابني أو لغيري".
لكن لا يمنع الحذر من القدر؛ فعلى الرغم من أن " قبل الماتش بيوم كان شغال في قهوة بالعمرانية، قلت له يا إسلام لو سمحت متروحش الماتش ده لأني أنا حاسة أن هيحصل فيه غدر"، غير أن إنه قال لها " معلش يا ماما سامحيني لما أبقى عيل صغير ابقى ماروحش لكن أنا ابن ثورة 25 يناير".
وهنا تذكرت الوالدة بجوار صورة ابنها والحجرة التي حملت كلماته داخلها وخارجها عن الثورة " ابني كان ثورجي لكن ثورجي نضيف مش من اللي بيخربوا دول لأ كان بيقف باحترامه لغاية مبارك ما ساب الحكم مارضيش ينزل التحرير تاني قال لي خلاص يا ماما اللي ينزل التحرير تاني يبقى بلطجي احنا مالناش نزول تاني لأن الاولتراس طول عمره نضيف ما بينزلش عشان يخربوا ".
وكان مرور عام على وفاة "إسلام" و10 شهور قضتها والدته وأسرته بالمحاكم لمتابعة القضية كفيل بأن يكون الشاغل للتفكير؛ ووالدة "إسلام" طالما نظرت للأمر أن " احنا كلنا مصريين بورسعيد أهلنا، ماليش دعوة باللي بيقول بورسعيد بلد مش عارفة إيه، والشباب دي اتخدت غدر لما العسكري اللي واقف مثلا حارس ليه ذنب في موضوعنا طبعا مالوش أي ذنب".
فالحكم الذي صدر منذ أيام وقضى بإحالة أوراق 21 شخصاً لفضيلة المفتي وجدته والدة "إسلام " أنه " زي ما يكون الحكم ده رضي بلد وهد بلد"، موضحة ذلك بأنها "أصل أنا جربت الحزن، ولغاية دلوقتي وأنا عايشة في حزن ابني بس لازم يعني أصوت وأصرخ لأن أنا ربنا مديني الصبر عشان الإيمان بالله".
ولم تخل كلمات والدة "إسلام" من نفي اتهام "الأولتراس" بالتخريب بعد أحداث بورسعيد كما اتهمهم البعض " زي ما ادعي عليهم اتحاد الكرة والكلام ده عشان خاطرنا احنا عشان المجزرة، وكانوا مطنشينا خالص لولا العيال دي وقفت هي اللي جابت لنا حقنا وهي اللي جابت لنا حقنا في المحكمة برضو قبل القضاء؛ لأنهم شباب محترم وفيهم بنات برضو محترمة كانوا بيجوا معانا قدام المحكمة".
لتؤكد أن " لو مكنش الحكم رضاهم قبلنا احنا كان طبعا شاطوا دول 74 ماتوا.. 74 راحوا غدر"، وكانت ترى والدة "إسلام" إن مدير الأمن هو المفروض اللي كان يتشنق أول واحد قبل العيال اللي محكوم عليها دي ومهندس الكهرباء واللي لحم الباب التلاتة دول المفروض يجيبوهم في الإعدام الأول".
وإن كانت الأم الثكلى متشككة في أن يصدر حكم يوم 9 مارس القادم بشأن الأمن قائلة " لأ طبعا ما بيحكموش على الأمن لأن لسه في فوضى في البلد"، لتتوجه برسالة إلى " وزير الداخلية وورئيس الوزراء "قنديل" بقول له دول لو ما اتحكموش مش هيحصل كويس لأن المفروض دول اللي يتحاكموا قبل أي حد، ولا يعني لسه الأمن بتاعنا فالت طيب يبقى براحتهم ودمنا في رقابتهم".
وعن اللحظات الموجعة للوالدين بعد معرفتهما بموت فلذة كبديهما وساعات من البحث لمعرفة هل من المصابين أم المتوفين ما بين النادي وسؤال أصدقاء، روت الأم " كان أبو إسلام قاعد مستني زيه زي غيره يعرف حاجة عن إسلام، فجه واحد سألني قالي انتي والده إسلام قلتله أيوه، وقلتله إن والده قاعد هناك، فراح له وقاله أنت عندك إيمان بالله، فقاله ونعمة بالله، قاله طب روح على مشرحة "زينهم" ابنك هناك، وأنا هاخد مراتك وولادك أوديهم البيت".
"لما لقيناه رايح زينهم عرفنا إن ابني مات، فاخته الكبيرة بدأت تصوت، رحت حاطة إيدي على بقها وقولتلها الشهيد مبيموتش، ورحت المشرحة؛ فالراجل قال لي هتستحملي تشوفيه وكده، فقولتله أه، دخلت لقيته مضروب على دماغه".. هكذا قالت الأم الثكلى.
المفارقة أن "إسلام" كان يرتدي "تي شيرت" للاعب الأهلي "محمد أبو تريكة" عندما جاء لوالدته جثة هامدة كما أنه " عنده 22 فانلة لأبو تريكة لوحده، كان بيحبه جدا هو والنادي الأهلى، لدرجة إنه كان بيقول لإخواته البنات إنه بيحب النادي الأهلى أكتر منهم".
حب "إسلام" للنادي الأهلي ولاعبيه لم يمنعه يوما عن لعب الكرة مع أصدقائه حتى ولو في أماكن بسيطة فقد كان" بيلم فلوس هو وصحابه، ويروحوا يدوها لحارس نادي جنبنا ويفتحلهم البوابة يلعبوا هناك"، حتى أن حارس النادي عندما علم بخبر موت "إسلام" بكى كغيره ممن علموا سواء من جيرانه أو أصدقائه.
ولم تؤثر وفاة "إسلام" الذي منعته حادثة أثناء حياته من أن يصبح لاعبا للكرة كما أراد، على رغبة والدته بأن يلعب ابنها الأصغر "عثمان" الكرة لأن "الأعمار بيد الله، هو فيه حد يقدر يقول للموت لأ"، مؤكدة أن " الحمد لله لأن الموت ستر، ابني إسلام من الناس القليلين اللي جت بهدومها مش ناقص منها حاجة".
بيد مرتعشة أخرجت الأم قميص ابنها من حقيبة المدرسة الخاصة به؛ حيث لم تجده إلا من ساعات قليلة في غرفته بالصدفة، فما إن وجدته هو والحقيبة حتى انهارت في البكاء "صحابوا جابولي لبس المدرسة بتاعه بعد ما مات بكام يوم، والنتيجة بتاعته ظهرت تاني يوم ما مات، كان طالع التاني على المدرسة عشان كان عايد السنة".
لعل تلك المرة التي ذهب فيها "إسلام" لبورسعيد ولم يعد، لم تكن الأولى؛ إذ أنه سافر أكثر من مرة مع أصدقائه في "الأولتراس" سواء للإسكندرية أو بورسعيد، وحكت والدته " كان والده أهلاوي كمان، كانو يقعدوا يتفرجوا سوا على الماتشات، وأنا عشان زملكاوية يغيظوني، وكان إسلام يقولي اتغلبتوا يا ماما ويهزر معايا".
المذبحة لم تأخذ "إسلام" فقط، بل صديقه "خالد عمر" الذي كان مرافقاً له أثناء المباراة إلا أن إصابة "خالد" كانت مختلفة كما أوضحت أم "إسلام": " خالد مات بالسكتة القلبية من اللي شافه بعد الماتش وصحابه اللي بيموتوا"، مشيرة إلى أنها تعرف الكثير من أهالي الشهداء.
أرادت الأم الثكلى أن تدفن أحد الذين ماتوا في المذبحة بجوار ابنها لأن "هو ولد مكانوش عارفين أهله، فضل قاعد في المشرحة ييجي 8 شهور، في الآخر دفنوه في مدافن الصدقة، واتحايلت عليهم أخده أدفنه مع إسلام ابني بس مرضيوش".
أخت الشهيد الصغرى "وردة" والتي لم تكن أخت فقط بل صديقة أيضاً، فـ" إسلام" بالنسبة لها " كان كل حاجة في حياتي وكان بيحكيلي كل حاجة لأني أقرب واحدة ليه عشان كنا قاعدين سوا على طول".
"وردة" الصغيرة كانت تشارك "إسلام" في معظم ما يفعل حتى أنهما قررا تسجيل صوتي لهما عبارة عن كلمات مقفاة كتبها "إسلام" وقرر أن يسجلها عن ثورة يناير، إذ تلت "وردة" جزءا من التسجيل قائلة "نزلت التحرير فوجئت بناس كتير، منهم النائمين ومنهم الواقفين ومنهم المندسين، مصر بلدنا نعبر بها إلى بر أمان، هم الشهداء الحقيقيين، شهداء حرب أكتوبر وشهداء 25".
لم تكن أحلام "إسلام" بالكبيرة، لكنه كان يريد أن يصبح قادراً في يوماً ما على مساعدة والديه ورفع جزء قليل من متاعب الحياة عنهما، فكما قالت والدته " كان نفسه يطلع مهندس عشان يساعدني لأن والده تعبان ومبيقدرش يشتغل وأنا بشتغل من 17 سنة، فكان عايزني أقعد في البيت".
المحكمة التي حوت أهالي الشهداء وأهالي المحكوم عليهم، كانت تربة خصبة لمعرفة الجانبين لبعضهم البعض؛ فالكل في المحكمة كان يبكي على ليلاه "كان أهالي المحكوم عليهم يقولولنا يارب لوعيالنا قتلوا يتشنقوا"، قالت أم "إسلام"، مضيفة أن" احنا نتمنى إن محدش يتظلم من اللي خدوا أحكام، اللي ذاق النار يحس بيها على غيره"، مؤكدة أن أكثر ما يهمها لكي تهدأ نارها هو" إن مدير الأمن ومهندس الكهرباء واللي لحم البوابة يتعدموا، دول أكتر ناس مهمين بالنسبة ليا".