الأموال والأرواح، وربما لا يعرف الكثيرون أسبابها ودوافعها حتى اليوم رغم مرور أكثر من ستة وعشرين عاما.. فلماذا ثار جنود الأمن المركزى البسطاء الأميون الذين أتوا من ريف مصر لا يعرفون شيئا عن أى شىء، والذين يختارون بعناية من العساكر غير المتعلمين الذين لا تتوافر فيهم الأمية الكتابية فحسب، بل المعرفية أيضا؟ وما الذى دفعهم إلى الخروج غاضبين فى القاهرة ومعظم مدن مصر مخربين كل ما يقابلهم.. يحرقون المحلات والمتاجر ويحطمون فاترينات العرض ويعتدون على من يقابلهم؟ هذا ما سنعرفه فى السطور التالية.
انفجرت انتفاضة جنود الأمن المركزى فى منطقة الأهرامات مساء يوم الثلاثاء 25 من فبراير 1986، وتطورت على نحو واسع فوجئ بها الجميع: النظام، والخبراء والمحللون، وأحزاب المعارضة، والإعلام وغير ذلك من كل فئات وطبقات المجتمع المصرى. وقد انطلقت الانتفاضة من معسكرَين من معسكرات الأمن المركزى؛ يقع أولهما على الطريق بين القاهرة والفيوم، والثانى على الطريق بين القاهرة والإسكندرية. وبدأت الأحداث فى السادسة من مساء ذلك اليوم حين بدأ ثمانية آلاف جندى مظاهرات احتجاجية بعد أن ترددت بينهم أنباء تفيد بأنه تقرر مد فترة التجنيد الإجبارى لأفراد الأمن المركزى من ثلاث سنوات إلى أربع سنوات، وأن تخفيضا صغيرا سوف يلحق بمرتبات الجنود لسداد ديون مصر! وتطورت الأحداث بعد ذلك فيما يشبه انتفاضة شاملة امتدت إلى ستة معسكرات مختلفة فى الجمهورية: (القاهرة، والجيزة، والقليوبية، وسوهاج، وأسيوط، والإسماعيلية).
وبالتأكيد أنه من الطبيعى أن يثير خبر مد فترة التجنيد ثائرة جنود الأمن المركزى، الذين تراوح عددهم الإجمالى فى تلك السنة بين 300 و400
ألف جندى، معظمهم من أبناء معدمى الريف وفقراء الفلاحين الذين تفضل القوات المسلحة إحالتهم إلى قوات وزارة الداخلية لقضاء تجنيدهم الإجبارى بها، وطبقا لتصنيف القوات المسلحة لهؤلاء المجندين فهم من اللائقين صحيا
من المستوى (1) وثقافيا من المستوى (صفر)، وتتم معاملتهم بصورة غير آدمية، وتنظر إليهم وزارة الداخلية على أنهم يد عاملة رخيصة، حتى إن تقريرا رسميا للوزارة وصفهم بأنهم «عمالة معدومة الأجر»؛ إذ تتراوح مرتباتهم بين 4 و6 جنيهات فى الشهر، وهى أرقام هزيلة للغاية وغير كافية بالمرة، وهو ما شجع وزارة الداخلية على التوسع فى أعداد الملتحقين بقوات الأمن المركزى، خاصة مع تزايد حدة الصراع الطبقى فى السبعينيات كون ذلك نتيجة طبيعية لسياسة الانفتاح الاقتصادى التى اتبعها الرئيس الراحل محمد أنور السادات.
تطور الأمن المركزى
التصقت نشأة الأمن المركزى وتطوره بصورة وثيقة الصلة بتطور الصراع الطبقى فى مصر. وتعود فكرة استخدام الأفراد المجندين للقوات المسلحة بوزارة الداخلية فى أعمال الأمن إلى ثورة 1919 وعجز قوات الشرطة المحدودة وقتها عن مواجهتها، ما دعى الاحتلال الإنجليزى إلى الاستعانة بمجندين من القوات المسلحة لاستخدامهم فى قمع المظاهرات، وعادت الفكرة إلى الظهور مرة أخرى فى ظل الأزمة المحتدمة للنظام الناصرى فى أعقاب هزيمة يونيو 1967؛ فعندما اندلعت مظاهرات عمال حلوان فى فبراير 1968 احتجاجا على الأحكام الصادرة ضد قادة سلاح الطيران المتهمين بالإهمال والمسئولية عن الهزيمة ـ تلك المظاهرات كانت بمثابة شرارة أشعلت فتيل تحركات عمالية وطلابية عارمة ـ وعجزت قوات الأمن وتشكيلاتها عن مواجهتها، استنتجت الأجهزة الأمنية للنظام أن ساحة المجتمع المصرى ستشهد مزيدا من الاضطرابات الجماهيرية. فصدر إثر ذلك القرار الوزارى رقم 1010 لسنة 1969 الذى أنشأ جهاز الأمن المركزى، وخصه بمواجهة الاضطرابات وأعمال الشغب التى تعجز قوات الأمن العادية عن مواجهتها، ولم يتجاوز عدد جنود الأمن المركزى آنذاك خمسة آلاف جندى، ومع اتساع نطاق النضالات الجماهيرية فى السبعينيات اتسعت أيضا قوات الأمن المركزى حتى وصلت إلى الذروة فى أعقاب انتفاضة يناير 1977. وقد طورت الداخلية استراتيجيتها وتكتيكاتها ضمن ما عرف بـ«سياسة الأمن الوقائى» فى عهد النبوى إسماعيل، بما يعنى توجيه ضربات إجهاضية إلى أى تحرك سياسى أو اجتماعى وهو لا يزال فى المهد. هكذا لم تتضاعف فحسب أعداد جنود الأمن المركزى حتى بلغت نصف مليون، بل انتقل تسليح الجهاز أيضا من العصى والقنابل المسيلة للدموع والبنادق إلى المدافع الرشاشة والسيارات المدرعة وبعض الأسلحة الكيمياوية، حتى أصبح يشبه إلى حد كبير الجيش النظامى.
تجنيد عقابى
ينظر أغلب جنود الأمن المركزى إلى فترة التجنيد على أنها عقوبة ويجب أن تمر بأية صورة؛ فالمعسكرات بالنسبة إليهم سجن.. يعيشون فى معسكرات ضخمة من الخيام لا تتضمن أى مرافق مريحة، وينامون على الأرض، ولا تتوافر لهم دورات مياه آدمية، كما أن التغذية التى تصرف لهم لا تتناسب مع ما يبذلون من جهد شاق (وصل متوسط ثمن الوجبة عن اليوم الواحد شاملا الإفطار والغداء والعشاء 93.7 قرشا طبقا لعقد توريد أغذية 1989/1990، وذلك بعدما تحسنت التغذية كثيرا بعد أحداث فبراير 1986)، وهم لا يحصلون على الوجبة الساخنة
الوحيدة إذا جاء موعدها وهم فى دورياتهم، ويتناولون غذاءهم كلما سمحت الظروف، وقد تستمر المواجهات أياما وليالى دون فترات راحة كافية للطعام أو قضاء الحاجة.
كما أن الإجازات قليلة وغير منتظمة ولمدد قصيرة وعلى فترات متباعدة، وهم يتعرضون إلى تدريبات شاقة، ويتعامل معهم الضباط كأنهم آلات صماء بلا مشاعر أو إرادة.
فمن بين أساليب تدريبهم إجبارهم على الوقوف ثمانى ساعات لا يتحركون خلالها ولو لقضاء الحاجة، فضلا عن شحنهم ضد أى مشاعر إنسانية قد تنتابهم فى أثناء أداء مهمتهم بتدريبهم على ضرب بعضهم بعضا، والتنافس فى إيذاء الزميل وإهانته والتفوق عليه بشتى الطرق.
وظروف الحياة فى المعسكر بالنسبة إلى جندى الأمن المركزى تشبه السجن تماما، ويعمق إحساسهم بالظلم التناقض المخيف بين بؤس حياتهم فى المعسكرات، والرفاهية البادية فى الأماكن التى يكلفون بحمايتها، من بنوك وشركات وسفارات وفنادق وملاهى وكازينوهات. وعلى حد قول «لينين» فى مقاله: (الجيش والثورة): «إن روح الحرية تتسرب إلى الثكنات فى كل مكان، فالثكنة فى روسيا أسوأ من سجن، وهم لا يقمعون الشخصية فى أى مكان كما فى الثكنة ولم يصل الضرب والتعذيب وإهانة الإنسان فى أى مكان إلى هذه الدرجة، هذه الثكنات ستصبح بؤرة للثورة».
للفرعون الجديد
حسب روايات المؤرخين، كان الفلاحون فى مصر الفرعونية يستعبدون ثلاثة أشهر لبناء قصر لفرعون، أو عاما لشق قناة أو إقامة هرم، ثم يفرج عنهم. أما فى الوقت الذى قامت فيه الانتفاضة فإن جنود الأمن المركزى مستعبدون لمدة ثلاث سنوات فى ظل شروط عمل أشبه بنظام السخرة فى معسكرات الاعتقال تحت حكم ستالين.
حدثت انتفاضة جنود الأمن المركزى فى سياق أزمة متفاقمة للرأسمالية المصرية وتفشى الفساد فى أركان دولة مبارك وتفضيل مصالح المستثمرين على مصالح الشعب. فبعد خمس سنوات من تولى الدكتاتور مبارك الحكم تقلصت عائدات البترول ومعها تحويلات المصريين العاملين بالخارج، وارتفع معدل التضخم إلى نحو 20%، وتراجع معدل النمو الاقتصادى (الذى بلغ نحو 2.5%) عن معدل نمو السكان، وهو ما كان يعنى انخفاض نصيب الفرد من الدخل (فضلا عن سوء توزيع هذا الدخل)، كما بلغت الديون 32.5 مليار دولار.
ومع احتدام الأزمة بدأت حكومة «على لطفى» فى اتخاذ مجموعة من القرارات الاقتصادية الجديدة على طريق «الانفتاح» والهجمة على حقوق ومكتسبات العمال وتكثيف معدلات الاستغلال. ومع تفاقم الأزمة ومحاولات حلها على حساب الطبقة العاملة والفقراء، تصاعدت حدة الصراع الطبقى واندلعت الإضرابات الكبرى مثل إضرابى إسكو والمحلة فى فبراير 1986 اللذين شهدا مواجهات دموية بين العمال والدولة، وما تلاهما من إضرابات عديدة خلال العام نفسه. ووسط هذا المد من الصراع الطبقى والمجتمعى جاءت انتفاضة الأمن المركزى.
إن جنود الأمن المركزى الذين يقال إنهم «يخافون من أقل رتبة» كسروا كل القواعد وخرجوا عليها وأصبحوا ثوريين؛ فلأول مرة فى تاريخ جهاز الأمن المركزى يتمرد الجنود على الضباط والنظام بعدما سئموا المهانة والذل ورؤية غيرهم يأكلون اللحم وهم لا يجدون الخبز، ويئسوا من حياة الاستعباد التى يعيشون فى ظلها.
أحداث الانتفاضة
وقع ما لم يتوقعه أحد وثار الجنود البسطاء المهانون وخرجوا إلى الشوارع ثائرين غاضبين فى مساء يوم الثلاثاء 25 من فبراير، خرج الآلاف من الجنود من معسكرين للأمن المركزى فى منطقة الأهرامات مندفعين بخوذاتهم ورشاشاتهم وبنادقهم فى مظاهرات مسلحة إلى فندق «الجولى فيل» وهو واحد من أحدث وأضخم فنادق القاهرة وقتها ويقع فى مواجهة أحد المعسكرين اللذين بدأ منهما التحرك، وتتيح واجهاته الزجاجية الفرصة ليشاهدوا ما يجرى من ورائها ليدركوا مدى بؤس حياتهم فى قراهم وداخل المعسكر ليصبوا جام غضبهم على تلك الواجهات الفارهة.
حظر التجول
حطم الجنود هذه الواجهات الزجاجية، ثم اقتحموا الفندق، وبدءوا يحرقون كل ما فيه، كما أحرقوا فندق «هوليداى سفنكس»، ومبنى قسم شرطة الهرم، وفندق «مينا هاوس»، وبعض المحلات التجارية الكبيرة فى المنطقة، وخلال ساعات استطاع الجنود احتلال منطقة الهرم بأكملها بما فى ذلك مداخل طريق الإسكندرية الصحراوى وطريق الفيوم وترعة المنصورية، وفى الثالثة من صباح الأربعاء 26 من فبراير أعلنت حالة الطوارئ وتم فرض حظر التجول فى تلك المنطقة.
وفى نحو السادسة صباحا انتشرت قوات الجيش واحتلت عددا من المواقع التى يوجد فيها الجنود المتمردون، وبدءوا فى حصار الجنود، وبعد معارك ضارية استطاعت قوات الجيش أن تسيطر على المنطقة. وحتى ذلك الحين لم يكن ما يجرى فى منطقة الأهرام قد امتد إلى بقية العاصمة، وما كادت ساعات صباح الأربعاء الأولى تمر حتى بدأت الانتفاضة فى أغلب معسكرات الأمن المركزى الأخرى فى العاصمة.. فى شمالها وشرقها وجنوبها الغربى، وتعالت أصوات اشتباكات الرصاص مع قوات الجيش التى كلفت بسحب السلاح من جنود الأمن المركزى فى جميع المعسكرات، بعد أن تزايدت الشكوك من اختراق سياسى واسع داخل جهاز الأمن المركزى، كما وقعت أحداث عنف أيضا فى معسكر الهايكستب القريب من مطار القاهرة.
وفى الثامنة والنصف تجمهر جنود الأمن المركزى بمعسكر لهم يقع فى شارع جسر السويس، وحين وصلت القوات المسلحة إلى المعسكر اشتبك معهم الجنود وتحول الاشتباك إلى مطاردة فى الشوارع الجانبية المتفرعة من جسر السويس، وشوهدت آثار الدماء على أرض الشارع، واحترقت إحدى سيارات الجيش على الأقل، وتم إغلاق شارع جسر السويس وتعزيز قوات الجيش.
وفى الدراسة، حيث يقع معسكر ضخم لقوات الأمن المركزى، تبادل الجنود المحتشدون النار مع قوات الجيش، ولجأ بعض جنود الأمن المركزى إلى البيوت المحيطة بالمعسكر ومنطقة المقابر بعد نفاد ذخيرتهم.
أما فى معسكر شبرا فقد رفض الجنود الاستسلام للجيش وانتشروا فى المنطقة المحيطة بهم، وكادوا ينجحون فى تحطيم أكبر محطة للكهرباء فى القاهرة.
ويعد تحرك الأمن المركزى فى منطقة طرة أخطر التحركات جميعا؛ ففى أثناء محاولة الجيش استلام المعسكر واجههم الجنود بإطلاق النار، وبدأت طائرات الجيش الهليكوبتر بقذفهم بالرصاص، فخرج جنود المعسكر بالآلاف فارين إلى الشوارع حاملين أسلحتهم وتوجهوا إلى سجن طرة واستطاعوا أن يقتحموا السجن ويساعدوا السجناء على الهرب، وبحثوا عن الضباط كى يقتلوهم.
وبدأ الوضع يأخذ منحى آخر فى شارع الهرم، حيث انحازت كتلة من «الفواعلية» وعمال التراحيل والشحاذين والطلاب والعاطلين عن العمل- الذين يسكنون فى أفقر منطقة فى الهرم «الطالبية»- إلى جنود الأمن المركزى، وبدءوا يشتركون معهم فى تحطيم الكباريهات والفنادق الموجودة فى المنطقة: كازينو الليل، والأهرام، وأوبرج الهرم، والأريزونا، وغيرها. عند هذا الحد انتاب الذعر الطبقة الحاكمة، وتم إعلان حظر التجول فى كافة مناطق العاصمة، وتم تحذير المواطنين من البقاء فى شوارع المدينة بعد ساعتين من قرار الحظر، خوفا من أن تشجع حركة الجنود فئات أخرى على التحرك ضد النظام، خاصة أن عناصر من المهمشين والعاطلين بدأت تشارك جنود الأمن المركزى الفارين فى الهجوم على السيارات والمحلات التجارية فى منطقة الدقى.
خارج القاهرة
كان الوضع خارج القاهرة أقل حدة بكثير، حيث انحصرت انتفاضة الجنود فى القليوبية والإسماعيلية وسوهاج داخل المعسكرات، واستطاعت قوات الجيش أن تحاصرهم وتنزع أسلحتهم بسهولة، وكان الاستثناء الوحيد فى أسيوط، فكانت الأحداث أشد عنفا؛ إذ ترددت أخبار عن فتح محافظ أسيوط آنذاك زكى بدر (الذى أصبح وزيرا للداخلية مكافأة له على دوره فى مواجهة الأحداث) الهويس (القناطر) فى أسيوط للحيلولة دون وصول جنود الأمن المركزى من معسكرهم فى البر الشرقى الذى أحرقوه وخرجوا منه، وذكرت مصادر غرق ثلاثة آلاف جندى من جراء فتح الهويس فى تكرار لحادثة كوبرى عباس الشهيرة. واستخدم الجيش الطائرات لضرب جنود الأمن المركزى، ويوضح ما حدث فى أسيوط خوف السلطة من تكرار ما حدث عام 1981 - عقب اغتيال السادات - عندما استطاعت الجماعات الإسلامية المسلحة الاستيلاء على القسم والسيطرة على المدينة، فالجماعات الإسلامية كانت لا تزال موجودة بكثافة فى أسيوط آنذاك.
حصيلة الانتفاضة
كانت حصيلة انتفاضة الأمن المركزى أكثر من 107 قتلى معظمهم من الجنود: 104 فى القاهرة، و3 فى أسيوط، و719 جريحا. وبعد إعادة الجيش السيطرة على الأوضاع، تم القبض على آلاف من الجنود من مواقع الأحداث، بالإضافة إلى أعداد من المهمشين، وأمام أحد أقسام الشرطة التى تعرضت للهجوم وقفت دبابات الجيش صفين بينها طابور من العساكر المقبوض عليهم، واضعين أياديهم فوق رءوسهم مثل الأسرى وعيونهم زائغة، معظمهم ضعاف الجسم قصار القامة، بعضهم يرتدى الزى العسكرى وآخرون بالملابس الداخلية، مساقون إلى المذبح فى مشهد يشبه إلى حد كبير صلب سبارتاكوس ورفاقه على طريق روما، وغيرها من مشاهد الأسرى فى الأساطير التاريخية، وتم طرد 21 ألف جندى من الخدمة.
معاداة الانتفاضة
وقد تبنت معظم القوى السياسية والأحزاب مواقف معادية للجنود البسطاء الذين تم التغرير بهم أو خرجوا غضبا واعتراضا على سوء أوضاعهم.. حيث كتب حسين عبد الرازق على صفحات الأهالى: «تعودنا أن ندافع عن حق العمال فى الإضراب، ولكن أحداث هذه المرة شىء آخر.. إنها تمرد لا إضراب، والفرق بينهما كبير وواضح.. فرق بين الاحتجاج والتمرد؛ الأول تعبير منظم عن مطالب وحقوق، والثانى تصرفات فوضوية مظاهرها التخريب والحرق والسلوك العشوائى.. ربما كان للأمن المركزى مطالب، وقد يكونون أصحاب حقوق مهضومة.. لكن الأكيد أن هناك أسلوبا آخر غير الرصاص للتعامل والتعبير».
وبالطبع لم يكن أمام عبيد ذلك العصر السعيد «أسلوب آخر للتعامل والتعبير»، وهل تسمح طبيعة جهاز الأمن المركزى بممارسة هذا الأسلوب الآخر؟
السبب الخفى
السبب الحقيقى للانتفاضة الذى لم يفصح عنه بشكل رسمى حتى الآن ولم تتوافر معلومات موثقة عنه سوى تسريبات وتلميحات ترقى أحيانا إلى التصريحات فى الغرف المغلقة- كان نجاح وزير الداخلية وقتها اللواء أحمد رشدى فى القضاء على تجارة المخدرات ومهاجمة أوكارها الكبرى سواء فى الباطنية بقلب القاهرة القديمة أو خلف جامع الأزهر الشريف، وكذلك وجّه ضربات كثيرة قوية وعميقة أدخلت معظم أو كل تجار المخدرات السجون، الذين وصفهم الخبراء بأنهم كانوا «الصف الثانى»، فيما بقى الكبار فى مناصب كبرى فى الدولة ونافذين ومستترين خلف الأستار، وبالطبع توقفت تجارة هؤلاء الكبار فهم لا يستطيعون أن يظهروا للعلن ولا أن يبيعوا المخدرات بأنفسهم، ففكروا فى طريقة للتخلص من الوزير الذى أوقف تجارتهم وأضر بثرواتهم.
وتفتقت أذهانهم عن خطة شيطانية برشوة بعض ضباط فاسدين كبار فى الداخلية، وتم تسريب تلك المعلومات المغلوطة إلى جنود الأمن المركزى البسطاء بمد فترة خدمتهم وخفض مرتباتهم الهزيلة من الأساس، وشجعوهم على الخروج إلى الشوارع وتدمير ما تصل إليه أياديهم ليوصلوا رسالة غضب إلى الحكومة والرئيس مبارك نفسه، ولـمّحوا لهم بأنهم لن يتعرضوهم أو يقفوا فى طريقهم ولن يعاقبوهم، بل سيقفون بجانبهم ويمنعون الأذى عنهم! وهو ما صدقه الجنود البلهاء وخرجوا فى تلك الانتفاضة الغاضبة دون وعى وبلا عقل، ووقعت تلك الأحداث التى قمعها الجيش وتُممت بإقالة وزير الداخلية «اللواء رشدى» وهو ما كان يريده تجار «الكيف»، وتم تعيين اللواء زكى بدر، ولم يتم الإعلان عن أسباب تلك الأحداث الحقيقة للحفاظ على هيبة الدولة وأسرارها.
اللواء أحمد رشدى من مواليد 29 من أكتوبر 1924، وهو وزير الداخلية المصرى من 1984 حتى 1986، لقب بـ«قاهر المخدرات»، وهو أول وزير للداخلية ينال احترام الشعب بجميع طوائفه، وحارب تجار المخدرات وقاد حملة ناجحةضدهم.
استقال من وزارة الداخلية بعد أحداث الأمن المركزى فى 1986، وعندما خرج من الوزارة أسف الجميع لخروجه وكانت خسارة كبيرة للقيم والمبادئ، وهو أول من قام بعملية انضباط للشارع وأجبر قيادات الداخلية على النزول إلى الشارع من أجل راحة وأمن وأمان المواطن المصرى. وانتخب عضوا بمجلس الشعب عن دائرة بركة السبع بمحافظة المنوفية. ويتردد أنه هو الذى اكتشف رأفت الهجان ورشحه لضباط المخابرات العامة لتجنيده عندما كان جهاز المخابرات يبحث عن شخص له جذور إجرامية ليتمكن من التعامل مع الإسرائيليين.
فى فترة الثمانينيات، كانت منطقة الباطنية بالقاهرة الفاطمية، لها شهرة كبيرة مركزًا لتجارة المخدرات فى مصر؛ إذ يقطنها عدد كبير من تجار المخدرات، ويتردد عليها المدمنون. وفى عهد اللواء أحمد رشدى تم القضاء على عدد كبير من التجار بالمنطقة. وعلى لسان أحمد رشدى، أنه قام بحملات مكثفة بعدد كبير من ضباط الشرطة بدلا من المخبرين والمرشدين، وقام بحملات تفتيش على أوقات متقاربة، وبعد فترة نجح فى القضاء على تجارة المخدرات بالباطنية.
يقول «رشدى» مبتسما: بعد خروجى من الوزارة انتشرت شائعة بوجود نوع جديد من المخدرات أطلق عليه التجار «باى باى رشدى».