الهدوء يعم المكان الشعبى، اللهم سوى هتافات الباعة الجائلين: «2 كيلو موز بعشرة.. 4 كيلو يوسف أفندى بعشرة»، أتم المصلون صلاة العشاء، على جانبى شريط السكة، يفترش الباعة بضائعهم، بينما حركة المارة مستمرة من وإلى شارع السودان عبر مزلقان أرض اللواء.. دقائق مرت، خرج بعدها عامل المزلقان من غرفته مرتديا جلباباً وكوفية صعيدى تقيه من برد الشتاء، ثم ما لبث أن أمسك بإحدى السلاسل الحديدية فى يده مُعلناً للناس فى إشارة يفهمها الجميع بأنه سوف يقوم بغلق المزلقان، لأن قطار السابعة القادم من مغاغة فى طريقه إلى القاهرة أوشك على الوصول، تهافت سائقو السيارات فى المرور سريعا قبل أن يقوم «العامل» بفعلته التى ستُعطلهم جميعا ما يقرب من 10 دقائق كاملة، إلا أن كوارث القطارات التى توالت وسالت بسببها الدماء كانت كفيلة بإحداث القلق داخل رأس «أحمد إبراهيم» موظف السكة الحديد، وما هى إلا لحظات حتى جر خلفه تلك السلسلة الحديدية بطول المزلقان من جهة أرض اللواء، ثم ذهب إلى الجهة الأخرى ليكرر المشهد مرة أخرى.. ذهب إبراهيم إلى داخل غرفته مرة أخرى، لكنه تذكر أن جرس الإنذار مُعطل، وتذكر وقت أن اعتصم يوم 28 ديسمبر الماضى بسبب تعطل التليفون الموجود فى المزلقان فضلا عن تعطل جرس الإنذار منذ 45 يوماً، قبل أن يهدده مسئولو السكة الحديد لإجباره على إنهاء الاعتصام، فعاد يراقب المزلقان مرة أخرى، جحظت عيناه وقت أن رأى «تاكسى» يأتى من الاتجاه المعاكس يحاول الدوران من خلف السلاسل الحديدية فى محاولة للمرور سريعا قبل قدوم القطار، تحذيرات الرجل الخمسينى لم تُجد مع سائق التاكسى الذى أصر على المرور، مرّ «سائق التاكسى» بمن معه من خلف المزلقان اليدوى صوب الجهة الأخرى إلا أن السيارة لم تتحرك بهم أبداً وتسمرت فى مكانها.
مجاورا لشريط السكة الحديد يجلس «بكر سعيد» شاب فى منتصف العشرينات، صعيدى المنبع، قوى البنية، يُنادى بصوت غليظ على بضاعته المتمثلة فى «أغطية موبايل وحظاظات وسلاسل».. يجاوره فى «أكل العيش» شاب آخر «محمد عبدالعاطى» يبيع المفروشات، مع صرخات عامل المزلقان؛ تحرك الشابان صوب التاكسى هما ومجموعة من رفقاء «الأرضية»، هرعوا محاولين مساعدة السائق «كريم رمضان» البالغ من العمر 19 عاماً، على تحريك سيارته التى غرست بسبب قضبان السكة البارزة، بينما ظل الركاب بداخلها، وكأن لديهم يقينا بأن الأمر «هيعدى على خير»، محاولات الباعة باءت بالفشل.. «قعدنا نزق فى العربية لكن مفيش فايدة» يقولها «بكر».. داخل السيارة كان يقبع رجل فى أوائل الخمسينات يُدعى «جمال عبدالسلام»، وسيدة فى أواخر العشرينات تدعى «منى عبدالمقصود»، التى انتابتها حالة من الخوف جراء الموقف الذى لم ينجح أحد فى الوصول إلى حل له حتى الآن، بينما اختفت ابنتها «ميرنا» فى أحضانها مرتعدة من الخوف.
والدة سائق التاكسى: حسبى الله ونعم الوكيل فى كل مسئول مش حاسس بينا
نور يشع من بعيد على مرمى بصر «إبراهيم» عامل المزلقان، الذى خيم على عقله الذهول، ارتجف جسده، وصاح فى الجميع: «يلا يا جدعان بسرعة القطر جاء على السكة»، الجميع يتمتمون، العرق يتصبب من جباههم، والأجساد تُضاعف قوتها من أجل إنقاذ ما يحويه «التاكسى»، فى الوقت الذى لمحت فيه «منى» نور القطار من بعيد يقترب ويقترب ويقترب، حاولت بكل ما تملك من قوة الخروج، لكن الباب التى كانت تجلس بجواره «مسوجر»، فدائما ما يوصد السائقون باب الراكب الخلفى من جهتهم حماية للركاب من السيارات المسرعة فى الطرق السريعة، حاول «الفكهانية» و«الباعة الجائلون» فتح الباب الموصد إلا أن محاولتهم باءت بالفشل من جديد، أخرجت «منى» ابنتها من أحضانها وأعطتها إلى «جمال» الذى تلقفها فى هرولة، حاضناً إياها ومحاولا الخروج من التاكسى، بينما زحزحت السيدة العشرينية جسدها للخروج من الجهة الأخرى.. الجميع يبتعدون عن التاكسى، القطار يقترب وصافرته أصمت الجميع وأبكمتهم، ابتعدوا قدر الإمكان، اتخذوا من خلف السلاسل الحديدية ملاذا لهم وحماية لأرواحهم، بينما ظلت محاولات «كريم» السائق فاشلة، التاكسى على منتصف القضبان عالقاً.. «منى» لم تخرج بعد، و«جمال» خرج لتوه، بينما قبض سائق التاكسى بيديه على طارة القيادة.. المراقبون جحظت أعينهم وارتفع الدم فى عقولهم، الصمت خيم على الجميع.. بل على المكان بأسره، هتافات الباعة الجائلين توقفت، لا صوت يعلو فوق صوت صافرة القطار القادم بسرعة.. «صوت ارتطام» هو آخر ما تردد على مسامع الجميع، التاكسى الذى كان قابعا فى مكانه تحرك أخيراً، ولكن مُنجرفا لمسافة 2 كيلو متر، ليرقد جميع من كانوا فيه تحت كوبرى ميدان لبنان، بينما تبقى فى مكان الحادث «فردة حذاء منى» التى انقسم جسدها لنصفين، فى الوقت الذى ارتطم فيه رأس الصغيرة «ميرنا» فخرجت روحها على الفور، بينما تناثرت دماء الرجلين «كريم» و«جمال» على «زلط» القضبان الحديدية.
راحت الأم والابنة والحفيدة وبقى الابن والزوجة والحفيد يبكون
الهتافات تملأ المكان «احلق دقنك بيّن عارك حتشوف وشك وش مبارك.. دول مكانهم فى السجون بلطجية لابسة دقون.. مش إخوان ولا مسلمين ضحكوا علينا باسم الدين»، والعويل أصبح المسيطر، والنحيب واللطم على الخدود من سيدات لم يعرفن الضحايا، فى الوقت الذى ترقرقت أعين الجميع، بمن فيهم الفكهانية والباعة الجائلون.. «المفروض يكون فيه عسكرى مرور واقف على المزلقان عشان يمنع الناس من المرور.. لكن هما قاعدين ناحية شارع السودان عشان يلموا فلوس من سواقين الميكروباصات.. مش مهم مين اللى غلطان المهم إن فيه ناس ماتت.. «كلمات تخرج من أفواه غاضبة فقيرة تُحمل الجميع المسئولية وعلى رأسهم نظام «محمد مرسى».. «مرسى العياط عيطنا كلنا».. يقولها «بكر» وهو يهرول ناحية التاكسى الذى «تفرتك» هو وآخرون من أهل المنطقة، فالإسعاف لم يأت بعد، وهيئة الدفاع المدنى عاجزة عن الوصول إلى مكان الحادث بسبب القضبان، فيما ظلت أجساد الضحايا تنزف الدماء على القضبان، فى الوقت الذى اعتلى فيه أطفال منطقة أرض اللواء جرار القطار هاتفين: «مش هيمشى.. هوه يمشى».
أمام مستشفى إمبابة، تجمع أقارب وجيران سائق التاكسى كريم، الذى لقى مصرعه فى الحادث، كريم هو الابن الوحيد لأسرته له شقيقة واحدة.. على باب المشرحة وقفت سيدة تتشح بالسواد صرخاتها تسبق كلماتها «قالى هتمشى شوية يا ماما وأروح لبابا فى الجراج.. مكنتش أعرف إن دى آخر مرة أشوف فيها ابنى وبعدين شفته هنا ميت» قالتها الأم المكلومة وهى فى حالة بكاء هيستيرى على فقدان ابنها.
زاد ألم الأم عندما أشيع أن ابنها هرب وترك التاكسى بمن فيه على شريط القطار، تبكى بحرقة: «ياريته كان هرب.. حسبى الله ونعم الوكيل فى كل مسئول مش بيتقى ربنا، إحنا بننزل من بيوتنا ونموت، ربنا يحرق قلبهم على عيالهم زى ما حرقوا قلبى على ابنى».
فردة حذاء منى احدى ضحايا حادث ارض اللواء
«كان حاسس باللى هيحصل لابنه».. قالها عم كريم باكيا حال شقيقه والد الضحية، وقال: كريم اتصل بأبوه وقاله أنا نازل ناحية أرض اللواء، فحذره من عبور المزلقان إلا بعد الاطمئنان على مرور القطار.
وبانهيار تحدث صديقه عبدالله عاطف 20 سنة، قائلا: «كنت نازل من سلم السودان وقالوا فيه حادثة كبيرة عند القطر رحت هناك أساعد فى إخراج الجثث التى تحولت إلى أشلاء، طلعت جثة ست، وأنا باطلع التانية فوجئت أنه كريم صاحبى».
القدر فقط هو من جمع كريم والأسرة التى راح منها 3 ضحايا فى الحادث، فقد جاءت الأسرة بأكملها من محافظة الإسماعيلية لزيارة أقاربهم فى الوراق، وفى اللحظة الأخيرة عدلوا رأيهم وقرروا التوجه إلى أقاربهم فى أرض اللواء، ليلقوا حتفهم تحت عجلات القطار.
أحد أقارب الضحايا: جاءوا من الإسماعيلية لزيارتنا.. ومش راجعين تانى
يروى محمد عبدالرحمن أحد أقارب الأسرة المنكوبة: «جمال عبدالسلام» تبقى مرات أخويا، راحت فى الحادثة هى وبنتها منى محمد 28 سنة وحفيدتها ميرنا أدهم 5 سنين، ونجا من الحادث ابنها أدهم 26 سنة وزوجته ولاء محمود 25 سنة وابنه محمد سنتين.. وأضاف «كلمونا وقالوا لنا إنهم هييجوا يوم الأربعاء بناء على إلحاح الضحية منى، التى لم تزر القاهرة من قبل لأنها كانت مصابة بشلل رباعى وإعاقة، وكانت عايزة تشوفنى، آهى جت القاهرة ومش راجعة الإسماعيلية تانى».